رفع اليدين في الدعاء والمسح على الوَجْهِ بهما بعد الصلاة
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: الآداب والأخلاق -
ما حكم رفع اليدين والدعاء والمسح على الوَجْهِ بعد الانتهاء من الدُّعاء دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ مفروضةٍ؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فرَفْعُ اليَدَيْنِ حال الدُّعاء سُنَّةٌ مُستحبَّة، وهُو من آداب الدعاء المتفق عليها، ومن أسباب إجابته، وقَدْ ورَدَتْ في مشروعيته أحاديثُ مُتواتِرة، راجع بعضها في فتوى: "رفع اليدين يوم الجمعة عند دعاء الإمام".
وأمَّا مسح الوجه بعد الفَراغ من الدعاء، فغير مشروع، وقدْ استحبه البعض واستدلوا بحديثينِ ضعيفينِ لا تَقُومُ بِهما الحُجَّة:
الأوَّل: عنِ ابْنِ عُمَر قال: "كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا رَفَع يديْهِ في الدُّعاء لا يَحُطُّهما حتَّى يَمسح بِهما وَجْهَه" (رواهُ التِّرمذي، وقال: حديثٌ صحيحٌ غريبٌ لا نَعْرِفُه إلاَّ من حديثِ حمَّاد بْنِ عيسى، وقد تفرَّد به؛ وهو قليلُ الحديث وقد حدَّث عنه الناس).
والثاني: عنِ ابْنِ عبَّاس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "فإذا فَرَغْتَ فامْسَحْ بِها وَجْهَك" (رواهُ أبو داودَ وابْنُ ماجه).
والحديثانِ ضعَّفهُما الحافظُ العراقيُّ وغيْرُه؛ فلا يَصِحُّ الاستِدْلالُ بِهما على المطلوب؛ قال البَيْهَقيُّ: "فأمَّا مسحُ اليَدَيْنِ بالوَجْهِ عندَ الفراغ من الدُّعاء، فلستُ أحْفَظُه عن أحدٍ من السَّلَفِ في دُعاءِ القُنوت، وإن كان يُروى عن بعضِهم في الدعاء خارجَ الصَّلاة، وقَدْ رُوِيَ فيه عنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حديثٌ فيه ضعفٌ مُستَعْملٌ عندَ بعضِهم خارجَ الصَّلاة، وأمَّا في الصَّلاة فهُو عملٌ لَم يثبُتْ بِخَبَرٍ صحيحٍ ولا أثَرٍ ثابت".
وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية في"مجموع الفتاوى": "وأمَّا رَفْعُ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّم يديْهِ في الدُّعاء: فقدْ جاءَ فيهِ أحاديثُ كثيرةٌ صحيحةٌ، وأمَّا مسحُه وجهَه بيديْه فليس عنه فيه إلا حديثٌ أو حديثانِ، لا تقومُ بِهِما حُجَّة".
وقال النَّوويُّ في "المجموع": "... لا يَمسَحُ؛ وهذا هو الصَّحيحُ صحَّحه البيهقيُّ والرافعيُّ وآخَرون من المحقِّقين ... والحاصِلُ لأصحابِنَا ثلاثةُ أوْجُه: (الصحيح) يُسْتَحَبُّ رَفْعُ يديْهِ دونَ مَسْحِ الوَجْهِ".
وقال الألبانيُّ في "الإرواء" بعد ما ضعَّف حديثَيِ المسْحِ، وبيَّن أنَّهما لا يتقوَّيان بِمَجموع طُرُقِهما؛ لشِدَّة الضَّعف الذي في الطُّرق: "ومِمَّا يؤيِّدُ عدمَ مشروعيَّتِه: أنَّ رفْعَ اليدَيْنِ في الدُّعاء قد جاء فيه أحاديثَ كثيرة صحيحةٍ وليس في شيءٍ مِنْهَا مسحُهُما بالوَجْهِ، فذلِكَ يدلُّ -إن شاءَ اللهِ- على نَكارَتِه، وعدَمِ مشروعيَّتِه".
وقال الشَّيْخُ ابن باز في "الفتاوى": "المسحُ لِلوجْهِ لم يردْ فيه أحاديثُ صحيحةٌ، وإنَّما وَرَدَ فيه أحاديثُ لا تَخلو من ضعفٍ؛ فلهذا الأرْجَح والأصَحُّ أنَّه لا يَمسح وجْهَهُ بيدَيْهِ، وذَكَرَ بَعْضُ أهل العلم أنَّه لا بأسَ بذلك؛ لأنَّ فيه أحاديثَ يشدُّ بعضُها بعضًا وإن كانتْ ضعيفةً، لكنْ قد يُقَوِّي بعضُها بعضًا فتكونُ من قَبيلِ الحَسَنِ لغَيْرِه، كما ذكر ذلك الحافظُ ابنُ حَجَر في كتابِه "بلوغ المرام" في الباب الأخير، فالمقصودُ أنَّ المسحَ ليس فيه أحاديثُ صحيحةٌ، فلَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في صلاة الاستِسْقاء ولا في غَيْرِها من المواقف التي رَفَعَ يَدَيْهِ، كمَوْقِفه عندَ الصَّفا والمَرْوَة، وفي عرفاتٍ وفي مُزدلِفة، وعند الجِمار، لم يذكُرُوا أنَّه مَسَحَ وجْهَهُ بيَدَيْهِ لمَّا دعا، فدلَّ ذلِكَ على أنَّ الأفضَلَ تركُ ذلك".
أمَّا المواظبةُ على الدُّعاء دُبُرَ الصَّلواتِ المكْتوباتِ فلَيْسَ من السُّنَّة، ولكن لو دَعَا أحيانًا دون أن يتَّخِذَها عادةً جاز؛ قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: "السُّنَّة الَّتي كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يفعَلُها ويأمُرُ بِها أن يدعُوَ في التَّشهُّد قبلَ السَّلام، كما ثَبَتَ عنْهُ في "الصَّحيح" أنَّه كان يقول بعد التَّشهُّد: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ من عَذَابِ جهنَّم، وأعوذُ بِكَ من عذابِ القَبْرِ، وأعوذُ بِكَ من فِتْنَة المَحْيا والمَمات، وأعوذُ بك من فِتنة المسيح الدَّجَّال"، وفي الصَّحيح أيضًا أنَّه أَمَر بِهذا الدعاء بعد التَّشهُّد.
وكذلك في الصَّحيح أنَّه كان يقولُ بعد التَّشهُّد قبلَ السَّلام: "اللَّهُمَّ اغفِرْ لي ما قدَّمْتُ وما أَخَّرْتُ، وما أَسْرَرْتُ وما أَعْلَنْتُ، وما أنتَ أعْلَمُ به منِّي، أنتَ المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت".
وفي الصَّحيح أحاديثُ غَيْرُ هذه؛ أنَّه كان يدعو بعد التَّشهُّد وقبل السلام، وكان يَدْعُو في سُجُودِه، وفي رِوايةٍ كانَ يدعُو إذا رَفَعَ رأْسَهُ من الرُّكوع، وكان يَدْعُو في افْتِتاح الصّلاة، ولم يَقُلْ أحدٌ عنه أنَّه كان هو والمأمومونَ يَدْعُون بعدَ السَّلام، بل كان يذْكُر الله بالتَّهليل والتَّحميد والتَّسبيح والتَّكبير؛ كما جاء في الأحاديثِ الصحيحة". اهـ. باختصار.
وقال: "إذا انصرفَ إلى النَّاس من مناجاةِ الله لَم يكن موطن مناجاة له ودعاء، وإنَّما هو موطنُ ذِكْرٍ له وثناءٍ عليْهِ؛ فالمُناجاة والدُّعاءُ حينَ الإقبالِ والتَّوجُّه إليه في الصلاة".
أما الأحاديث التي ورد فيها مشروعية الدعاء في دُبر كل صلاة، فدبر كل شيء: آخر أوقاته كما قال ابن الأعرابي، وفي القاموس : "الدُبُر بضمتين : نقيض القُبُل، ومن كل شيء عَقِبَه وبفتحتين الصلاة في آخر وقتها" ،، والله أعلم.