حكم لعبة الشطرنْج

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: فقه الملبس والزينة والترفيه -
السؤال:

ما حكم لعبة الشطرنْج؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فقد اتَّفق المسلِمون على حُرْمة اللَّعِب بالشطْرِنج إذا كان على عِوض، أو تضمَّن ترْك واجِب، أو الوقوع في الكذِب، أو ضررًا، أو غيرَها من المحرَّمات.

أمَّا إن عرِي عن تلك الأشْياء، فاختلفوا في حُكمه، فذهب الحنابلة، وهُو المذهَب عند المالكيَّة، واختاره الحليمي والرّوياني منَ الشَّافعيَّة - إلى حُرْمَتِه مطلقًا.

وهو قول عليِّ بن أبي طالب وابنِ عُمر وابن عباس رضِي الله عنهم وسعيد بن المسيّب والقاسم وسالم، وعرْوة ومحمَّد بن الحسين ومطر الورَّاق.

واستدلُّوا بأثَر عليٍّ رضِي الله عنه أنَّه مرَّ بقوم يلعبون بالشِّطْرنج فقال: "ما هذه التماثيل الَّتي أنتم لها عاكفون؟! لأن يَمَسَّ جمرًا حتَّى تطفأ خيرٌ من أن يمسَّها".

وروى مالكٌ بلاغًا: أنَّ ابن عبَّاس رضِي الله عنْهما ولِي مال يَتيم، فوجدها فيه، فأحْرقها.

استدلُّوا أيضًا بالقياس على النَّرْد، وبأنَّه صرْفٌ للعمر فيما لا يُجدي.

والمذْهب عند الحنفيَّة والشَّافعيَّة، وهو قول عند المالكيَّة: أنَّ اللَّعِب بالشِّطْرنْج مكروه فقط.

وذهب أبو يوسُف إلى إباحة اللَّعب بالشِّطرنج؛ لما فيه من شحْذ الخواطِر، وتذْكية الأفهام، ولأنَّ الأصل الإباحة، ولم يرِدْ بتحريمه نصٌّ، ولا هو في معْنى المنصوص عليه.

قال المرداوي في "الإنصاف": "اللَّعب بالشطرنْج حرام، على الصَّحيح من المذْهب، ونصَّ عليه، وعليه الأصحاب، كمَعَ عوض، أو ترك واجب، أو فعل محرَّم إجماعًا في المقيس عليه، قال في "الرعاية": فإن داوم عليه فسِّق، وقيل: لا يحرم إذا خلا من ذلك؛ بل يكره".

وقال ابن قدامة في "المغني": "فأمَّا الشطرنْج، فهو كالنَّرد في التحريم، إلاَّ أنَّ النَّرد آكَدُ منه في التحريم؛ لورود النَّصِّ في تحريمه، لكن هذا في معناه، فيثبت فيه حكمه قياسًا عليه".

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن حُكْم الشطْرنْج، فقال: "اللَّعِب بها منْه ما هو محرَّم متَّفق على تحريمه، ومنْه ما هو محرَّم عند الجمهور، ومكْروه عند بعضِهم، وليْس من اللَّعب بها ما هو مباح مستوي الطَّرفين عند أحدٍ من أئمَّة المسلمين؛ فإنِ اشتمل اللَّعب بها على العِوض، كان حرامًا بالاتِّفاق، قال أبو عمر بن عبدالبر إمام المغرِب: أجْمع العلماء على أنَّ اللَّعب بها على العِوض قمار لا يَجوز، وكذلك لوِ اشتمل اللَّعب بها على ترْك واجب أو فعْل محرَّم، مثل أن يتضمَّن تأخير الصَّلاة عن وقتها، أو ترْك ما يجب فيها من أعمالِها الواجبة باطنًا أو ظاهرًا، فإنَّها حينئذٍ تكون حرامًا باتِّفاق العُلماء.

والمقْصود أنَّ الشطرنج متَى شغل عمَّا يجب باطنًا أو ظاهرًا حرام باتِّفاق العلماء، وشُغْلُه عن إكمال الواجبات أوْضح من أن يحتاج إلى بسْط، وكذلِك لو شغل عن واجبٍ من غير الصَّلاة، من مصلحة النَّفس أو الأهْل، أو الأمر بالمعروف أو النَّهي عن المنكر، أو صلة الرَّحم، أو برِّ الوالديْن، أو ما يَجب فعله من نظرٍ في ولاية أو إمامة، أو غير ذلك من الأمور، وقلَّ عبدٌ اشتغل بها إلاَّ شغلتْه عن واجب - فينبغي أن يعرف أنَّ التَّحريم في مثل هذه الصّورة متَّفق عليه.

وكذلك إذا اشتملتْ على محرَّم أو استلزمتْ محرمًا، فإنَّها تحرم بالاتِّفاق، مثل اشتِمالها على الكذِب، واليمين الفاجرة، أو الخيانة التي يسمُّونَها المغاضاة، أو على الظلْم أو الإعانة عليه، فإنَّ ذلك حرام باتِّفاق المسلمين، ولو كان ذلك في المسابقة والمناضَلَة، فكيف إذا كان بالشطْرنج والنَّرد ونحو ذلك؟!

وكذلِك إذا قدِّر أنَّها مستلزمة فسادًا غير ذلك، مثل اجتماع على مقدِّمات الفواحش، أو التَّعاون على العدْوان، أو غير ذلك، أو مثل أن يُفْضي اللَّعب بها إلى الكثْرة والظهور الَّذي يشتمل معه على ترك واجب، أو فعل محرَّم - فهذه الصّورة وأمثالُها ممَّا يتَّفق المسلمون على تَحريمها فيها.

وإذا قدِّر خلوُّها عن ذلك كلّه، فالمنقول عن الصَّحابة المنْع من ذلك، وصحَّ عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنْه أنَّه مرَّ بقوم يلعبون بالشطْرنج فقال: "ما هذه التَّماثيل التي أنتم لها عاكفون؟!"، شبَّههم بالعاكفين على الأصنام، كما في المسند عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: "شارِب الخمْر كعابد وثن"، والخمر والميْسر قرينان في كتاب الله تعالى.

وكذلك النَّهي عنها معروفٌ عن ابن عمر وغيرِه من الصحابة، والمنقول عن أبي حنيفةَ وأصحابِه، وأحمد وأصحابِه تَحريمُها.

وأمَّا الشَّافعي، فإنَّه قال: أكْره اللَّعِب بها؛ للخبر، واللَّعب بالشطْرنج والحمام بغير قمار -وإنْ كرِهْناه- أخفُّ حالاً من النَّرد، وهكذا نُقِل عنْه غير هذا اللَّفظ ممَّا مضمونه: أنَّه يكْرهها، ويراها دون النَّرد، ولا ريب أنَّ كراهته كراهة تحريم؛ فإنَّه قال: للخبر، ولفظ الخبر الَّذي رواه هو عن مالك: "مَن لعِب بالنَّرد، فقد عصى الله ورسولَه".

قال ابن عبدالبر: أجْمع مالك وأصحابُه على أنَّه لا يجوز اللَّعِب بالنَّرد ولا بالشطرنْج، وقالوا: لا يجوز شهادة المدْمِن المواظب على لعِب الشطرنج، وقال يحيى: سمعت مالكًا يقول: لا خير في الشطْرنْج وغيرها، وسمعته يكْره اللَّعِب بها وبغيرها من الباطل، ويتْلو هذه الآية: {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} [يونس: 32]، وقال أبو حنيفة: أكْره اللَّعب بالشطْرنج والنَّرد إذا اشتملا على عِوض، أو خلوا عن عوض؛ فالشطرنج شرٌّ من النرد؛ لأنَّ مفسدة النَّرد فيها وزيادة، مثل صدِّ القلْب عن ذِكْر الله وعن الصَّلاة، وغير ذلك؛ ولهذا يقال: إنَّ الشطْرنج على مذهب القدَر، والنَّرد على مذهب الجبْر، واشتِغال القلْب بالتَّفكير في الشطْرنج أكثر، وهذا يعرفه مَن خبر حقيقة اللَّعب بها؛ فإنَّ ما في النَّرد من الصدِّ عن ذكر الله وعن الصَّلاة، ومن إيقاع العداوة والبغضاء - هو في الشطْرنج أكْثر بلا ريب، وهي تفعل في النُّفوس فعل حميَّا الكؤوس؛ فتصدُّ عقولهم وقلوبَهم عن ذكر الله وعنِ الصَّلاة، أكثر مما يفعلُه بهم كثيرٌ من أنواع الخمور والحشيشة، وقليلُها يدعو إلى كثيرِها؛ فتحْريم النَّرد الخالية عن عِوض مع إباحة الشطْرنْج مثلُ تَحريم القطْرة من خمر العِنَب وإباحة الغرْفة من نبيذ الحنطة، وكما أنَّ ذلك القول في غاية التناقُض من جهة الاعتِبار والقياس والعدل، فهكذا القوْل في الشطرنْج". اهـ.
هذا؛ والله أعلم.