التحصن بالعلم الشرعي في مهب الشهوات والشبهات

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: طلب العلم -
السؤال:

أنا طالب علمٍ دنيويٍّ، للأسف مبتعث في أمريكا، وتعصف بي فِتَن الشُّبهات والشهوات -في بلدي، وفي غربتي- وغيري من الناس؛ إذ لم يعُد هناك عِلْم بالدين، لدرجة لا تُتخيَّل، نسأل الله السَّلامة.
ولذلك أردت أن أطلب العلم الشَّرعي، العلم الَّذي أنزله الله على البشَر وشرَّفه وعظَّمه، ولهذا؛ فإنِّي أطْمح لحفظ القُرآن، وتعلُّم العقيدة، والتَّفسير، والفقه، والحديث، وأركِّز على العقيدة والتَّفسير لأفهم كلامَ الله، ولأتعمَّق في الإيمان بالله ونواقضه.
فمن أين أبدأُ وكيف؟ وهل لكم نصيحةٌ لنا بِمشْروع في الصَّيف القادم؛ مثلاً كحُضور دوْرةٍ علميَّة أو حلقة تَحفيظ مكثَّفة؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فطلب العلوم الشرعيَّة من أفضلِ ما يتقرَّب به العبدُ إلى الله تعالى، فقد رغَّب الإسلام في طلَب العلم عمومًا، وأفضلُ العلوم وأعظمُها أجرًا علومُ الكتاب والسنَّة، وما تفرَّع عنْهما؛ فقد قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم: "مَن يُرد الله به خيرًا، يفقِّهه في الدين" (رواه البُخاري ومسلم)، وقال الرَّسول صلَّى الله عليْه وسلَّم: "طلَبُ العِلْم فريضةٌ على كلِّ مسلم" (رواه الطبراني، والبيْهقي في "شعب الإيمان"، وصحَّحه الألباني).

فبادِرْ -أيُّها الأخ الكريم- إلى طلَب العِلْم، متى وأيْنما وجدتَ إلى ذلك سبيلاً.

ثمَّ إنَّ إقامتك في دولةٍ غير مسلمة أمرٌ مباح، إذا كنتَ تأْمَنُ معه على نفسك من الوقوع فيما هُنالك من الفواحشِ والمنكرات، وكنت قادرًا على إقامة شعائر دينِك، ويُسْتحْسَن حينئذٍ أن تصرِفَ جهْدَك إلى الدَّعوة إلى الله، وتتَّصل بالقائمين عليْها، فتجِد فيهم بيئةً تُعينُك على التمسُّك بالدِّين والدَّعوة إليه.

ولتبدأ أولاً بدراسة علوم المقاصد، وهي: العقيدة والفِقْه، والتَّفسير والحديث، ويدخل فيه سيرة رسولِ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم.

ثمَّ بدراسة علوم الوسائل، وهي علوم العربيَّة وأصول الفِقْه، وأصول الحديث وغير ذلك.

ولابدَّ للطَّالب من معرفة آداب الطَّلب ومن أعظم ما صنف فيه كتاب: "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي، وكتاب: "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر، ولا بدَّ له أن يُرَطِّب قلبه بالمرقّقات والمزهّدات، كمدارج السالكين لابن القيم.

ثمَّ لابدَّ للطَّالب من أمرَيْن، أوَّلهما: التدرُّج في طلب العلم، فيبدأ بصِغاره قبل كباره، والثَّاني: التَّوازُن بين العلوم، فلا تطغى دراسة الطَّالب لأحد فنون العلم على دراستِه لباقي الفنون في نفس المرحلة.

وممَّا يناسب ذِكْرُه هنا: بيان منهجٍ متكاملٍ لطلبة العلم في أُولى مراحل الطَّلب:

في العقيدة: يبدأ بسلسلة كتب: "العقيدة في ضوء الكتاب والسنَّة"؛ للدكتور عمر الأشقر.

وفي الفِقْه: "الملخص الفقهي"؛ للشيخ صالح فوزان.

وفي التفسير: "زبدة التفسير"؛ للدكتور محمد الأشقر، أو "تيسير الكريم الرحمن"؛ للشيخ السعدي، أو "مختصر تفسير ابن كثير"؛ لمحمد نسيب الرفاعي.

وفي الحديث: "شرح الأربعين النوويَّة"؛ للإمام النووي، و"عمدة الأحكام"، وشرحه "تيسير العلاَّم"؛ للشيخ عبدالله البسام، و"رياض الصالحين"؛ للإمام النووي.

وفي السيرة: "نور اليقين في سيرة سيِّد المرسلين"؛ للخضري، أو "الرحيق المختوم"؛ للمباركفوري.

وفي النَّحو: "التحفة السنيَّة في شرح المقدمة الآجرومية"؛ لمحمد محيي الدين عبدالحميد.

وفي أصول الفقه: "الواضح"؛ للدكتور محمد سليمان الأشقر.

وفي مصطلح الحديث: شرح ابن عثيمين على المنظومة البيقونيَّة.

وفي آداب طالب العلم: "حلية طالب العلم"؛ للشيخ "بكر أبو زيد".

وفي الرقائق: "مختصر منهاج القاصدين"؛ لابن قدامة، و"الدَّاء والدواء"؛ لابن القيم.
وهذه المرحلة تَليها مراحل أخرى.

وأمَّا كيفيَّة حفظ الحديث، فبكثرة المطالعة وتَكْرار النَّظر، وقد كان جبل الحِفْظ يحيى بن معين -وهو مَن هو في الضَّبط والاستِحْضار- كان يكتب الحديث خَمسين مرَّة ليضْبِطَه في صدْرِه، وراجع: "الطريق إلى طلب العلم وخدمة العقيدة". 

فمن أولى الخطوات التي على المرْءِ أن ينتهِجَها لتعلُّم العلوم الشرعيَّة بطريقةٍ ميسَّرة: تحديد الفنِّ المراد تعلُّمه، وأوَّل علمٍ يَنبغي البداءةُ به هو العقيدة؛ لأنَّ بتصحيحِها تصحُّ الأعْمال وتنفع صاحبها، فعلى المتعلِّم إذًا أن يبدأَ بتعلُّم العقيدة الواسطيَّة أو الطحاويَّة مع الشُّروح المبسطة، ثمَّ يتدرَّج في معرِفة العبادات ثمَّ المعاملات، ثم الأخْلاق والسير الإسلاميَّة، وهكذا.

ولابدَّ من أخْذِ العِلْم من الشُّيوخ أهلِه، وخصوصًا في بداية التعلُّم، ومطالعة الكتُب والمجلاَّت والاستِماع إلى الأشْرِطة، والاستِفادة من برامج الكومبيوتر، وحضورُ حلقات التَّعليم في المساجِد وغيرها خيرُ مُعينٍ على طلبِ العلم، واختِيار أهل الدِّيانة والورَع للتعلُّم منهم، والإخْلاص في الطَّلب، والصَّبر والتحمُّل، والتَّواضُع والتَّقوى، كلُّ ذلك من وسائل طلب العلم وتَحصيله.

فمَن آتاه الله العلم فقد أراد به خيرًا كثيرًا؛ كما ثبتَ في الصَّحيحيْن عن معاوية قال: قال رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: "مَن يُرد الله به خيرًا، يفقِّهه في الدين".

وقال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]؛ قال ابن تيمية: "إسماع الفقه، فإنَّ ذلك هو الذي يعطيهِ اللهُ لِمن فيه خير، وهذا نظيرُ ما في الصَّحيحين عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: "مَن يُرِد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدِّين"، وهذه الآية والحديث يدلاَّن على أنَّ مَن لم يحصُل له السَّماع الَّذي يفقه معه القول، فإنَّ الله لم يعلم فيه خيرًا، ولم يُرِدْ به خيرًا، وأنَّ مَن علِم الله فيه خيرًا أو أرادَ به خيرًا، فلا بدَّ أن يُسمعَه ويُفقِّهه؛ إذ الحديث قد بيَّن أنَّ كلَّ من يرد الله به خيرًا يفقِّهه، فالأوَّل مستلزم للثَّاني، والصيغة عامَّة، فمن لم يفقِّهه، لم يكن داخلاً في العموم، فلا يكون الله أرادَ به خيرًا، وقدِ انتفى في حقِّه اللازم، فينتفي الملزوم، وكذلك قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ}: بيَّن أنَّ الأوَّل شرطٌ للثَّاني -شرطًا نحويًّا- وهو ملزومٌ وسببٌ، فيقتضي أنَّ كلَّ مَن علِم الله فيه خيرًا أسْمَعه هذا الإسماع، فمَن لَم يُسْمِعه إيَّاه، لم يكن قد علِمَ فيه خيرًا، فتدبَّر كيف وجب هذا السَّماع وهذا الفِقْه، وهذا حال المؤمنين، بِخلاف الَّذين يقولون بسماعٍ لا فِقْهَ معه، أو فقهٍ لا سماع معه، أعني هذا السماع"،، والله أعلم.