دخول مكان قضاء الحاجة بأشرطة القرآن
أحمد حطيبة
- التصنيفات: الأدب مع الله وكتابه ورسوله -
السؤال: ما حكم دخول مكان قضاء الحاجة بأشرطة القرآن أو الأشرطة المحتوية مادة صوتية فيها ذكر الله؟
الإجابة: لاَ فَرْقَ بَيْنَ دُخُولِ الْخَلاءِ بِأَوْرَاقٍ فِيْهَا ذِكْرُ اللهِ أَوْ شَرَائِطَ مُسَجَّلٌ عَلَيْهَا الذِّكْرُ.
فَيُكْرَهُ اصْطِحَابُ شَيْءٍ فِيْهِ ذِكْرُ اللهِ إِلَى الْخَلاءِ، وَلاَ يَحْرُمُ، إِلاَّ أَن يَكُونَ مُصْحَفًا وَاصْطَحَبَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ كَانَ يَنْزِعُهُ قَبْلَ دُخُولِهِ الْخَلاءِ.
وَأَمَّا ما رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (19) حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ" فَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ، وَالْوَهْمُ فِيهِ مِنْ هَمَّامٍ، وَلَمْ يَرْوِهِ إِلاَّ هَمَّامٌ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي ("الْمُغْنِي": 231) فَصْلٌ: إذَا أَرَادَ دُخُولَ الْخَلاءِ وَمَعَهُ شَيْءٌ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى اُسْتُحِبَّ وَضْعُهُ، فَإِنْ احْتَفَظَ بِمَا مَعَهُ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَاحْتَرَزَ عَلَيْهِ مِنْ السُّقُوطِ، أَوْ أَدَارَ فَصَّ الْخَاتَمِ إلَى بَاطِنِ كَفِّهِ فَلا بَأْسَ، قَالَ أَحْمَدُ: "الْخَاتَمُ إذَا كَانَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ يَجْعَلُهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ، وَيَدْخُلُ الْخَلاءَ"، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "اقْلِبْهُ هَكَذَا فِي بَاطِنِ كَفِّك فَاقْبِضْ عَلَيْهِ"، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ الْخَلاءَ وَمَعَهُ الدَّرَاهِمُ: "أَرْجُو أَنْ لا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ".
وَقَالَ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ المِرْدَاوِيُّ الْحَنْبَلِيُّ في "ِالإِنْصَافِ" فِي مَعْرِفَةِ الرَّاجِحِ مِنْ الْخِلافِ: "وَقَطَعَ ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ بِالتَّحْرِيمِ، وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ".
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِتَحْرِيمِهِ، كَمُصْحَفٍ، قُلْتُ: أَمَّا دُخُولُ الْخَلاءِ بِمُصْحَفٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَلا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ قَطْعًا وَلا يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا عَاقِلٌ.
تَنْبِيهٌ: حَيْثُ دَخَلَ الْخَلاءَ بِخَاتَمٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، جَعَلَ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَسَارِهِ أَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ لأَجْلِ الاِسْتِنْجَاءِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي "الْمَجْمُوْعِ" شَرْحِ "الْمُهَذَّبِ": اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى اسْتِحْبَابِ تَنْحِيَةِ مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إرَادَةِ دُخُولِ الْخَلاءِ وَلا تَجِبُ التَّنْحِيَةُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: "لا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ دِرْهَمًا وَدِينَارًا أَوْ خَاتَمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ".
وَأَلْحَقَ الْغَزَالِيُّ فِي الإِحْيَاءِ وَالْوَسِيطِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى اسْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لا يَسْتَصْحِبُ شَيْئًا عَلَيْهِ اسْمٌ مُعَظَّمٌ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْجُمْهُورُ لِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي اخْتِصَاصِ هَذَا الأَدَبِ بِالْبُنْيَانِ وَجْهَانِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ يَخْتَصُّ، وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَنَانُ وَالصَّحْرَاءُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ الْمُصَنِّفِ وَصَرَّحَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ وَإِذَا كَانَ مَعَهُ خَاتَمٌ، فَقَدْ قُلْنَا يَنْزِعُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَوْ لَمْ يَنْزِعْهُ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا وَدَخَلَ فَقِيلَ: يَضُمُّ عَلَيْهِ كَفَّهُ لِئَلاَّ يَظْهَرَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: "إنْ لَمْ يَنْزِعْهُ جَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّهِ"، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، التَّرْخِيصَ فِي اسْتِصْحَابِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
قَالَ الْخَرَشِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي "شَرْحِ مُخْتَصَر خَلِيْل": (قَوْلُهُ: وَبِكَنِيفٍ) إلَخْ.. حَمَلَهُ الشَّارِحُ عَلَى وَرِقَةٍ أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ خَاتَمٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَسَكَتَ عَنْ نَفْسِ الذِّكْرِ قِرَاءَةً وَالْقُرْآنُ كَتْبًا وَقِرَاءَةً بَعْضًا وَكُلاً.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ تَنْحِيَةُ الْقُرْآنِ وَيُنْدَبُ تَنْحِيَةُ غَيْرِهِ مِنْ الذِّكْرِ نُطْقًا بِأَنْ يَسْكُتَ لِحُرْمَةِ نُطْقِهِ فِيهِ بِقُرْآنٍ وَكَرَاهَتِهِ بِذِكْرٍ وَكَتْبًا وُجُوبًا فَيَجِبُ تَنْحِيَةُ كَامِلِ مُصْحَفٍ وَلَوْ مَسْتُورًا كَانَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْكَتْبِ حَالَ نُزُولِ خَبَثٍ وَاسْتِبْرَاءٍ وَبَعْدَهُمَا وَقَبْلَهُمَا، وَمِنْ الْمُحَرَّمِ أَيْضًا مَا إذَا أَحْدَثَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ مُعَدًّا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فَلَمَّا تَمَّ حَاجَتَهُ أَرَادَ الْقِرَاءَةَ، وَهَذَا مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ مِنْ ارْتِيَاعٍ أَوْ خَوْفِ ضَيَاعٍ فَيَجُوزُ، وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِي مَحَلِّ الْخَلاءِ بِشَيْءٍ فِيهِ قُرْآنٌ أَوْ ذِكْرٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ مَا لَمْ تَدْعُ إلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ غَيْرَ مَسْتُورٍ، وَيَجُوزُ التَّحَرُّزُ بِبَعْضِ قُرْآنٍ مَسْتُورًا لا بِجَمِيعِهِ فِيمَا يَظْهَرُ، وَرَجَّحَ الْحَطَّابُ الْكَرَاهَةَ بِاسْتِنْجَاءٍ بِيَدٍ فِيهَا خَاتَمٌ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ مِنْ أَقْوَالٍ ثَلاثَةٍ الْجَوَازِ وَأُنْكِرَ وَالتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ (فَإِنْ قُلْت) سَيَأْتِي أَنَّهُ يَحْرُمُ الاِسْتِجْمَارُ بِالْمَكْتُوبِ وَهُوَ يُرَجِّحُ الْقَوْلَ بِحُرْمَةِ الاِسْتِجْمَارِ بِالْخَاتَمِ الْمَكْتُوبِ، قُلْت: "يُفَرَّقُ بِأَنَّ الامْتِهَانَ فِي الاِسْتِنْجَاءِ أَشَدُّ مِنْ الامْتِهَانِ بِالاِسْتِنْجَاءِ بِهِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الدُّخُولَ بِبَعْضِ قُرْآنٍ لَيْسَ كَالدُّخُولِ بِكُلِّهِ الظَّاهِرُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ صَحِيفَةٍ فِيهَا آيَاتٌ لا مِثْلِ جَزْءٍ، فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ كُلِّهِ فِيمَا يَظْهَرُ".
فِي "الْمَوْسُوْعَةِ الْفِقْهِيَّةِ": اجْتِنَابُ الدُّخُولِ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى: يُكْرَهُ الدُّخُولُ إلَى الْخَلاءِ بِشَيْءٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ"، وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ: كَانَ عَلَيْهِ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إلاَّ قَوْلاً فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ تَفْصِيلاتِ نُورِدُهَا فِيمَا يَلِي:
لَمْ يُفَرِّقْ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الْكَرَاهَةُ بَلْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ مَكْرُوهٌ لا حَرَامٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُصْحَفِ خَاصَّةً: إنَّ تَنْحِيَتَهُ وَاجِبَةٌ وَالدُّخُولَ بِهِ حَرَامٌ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ بِخِلافِ غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ قُرْآنٌ أَوْ ذِكْرٌ، قَالَ الْعَدَوِيُّ: يَجِبُ تَنْحِيَةُ مُصْحَفٍ وَلَوْ مَسْتُورًا، وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ بِشَيْءٍ فِيهِ قُرْآنٌ أَوْ ذِكْرٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ وَقَالَ: فَالدُّخُولُ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ لَيْسَ كَالدُّخُولِ بِكُلِّهِ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى نَحْوِ صَحِيفَةٍ فِيهَا آيَاتٌ، لا مِثْلِ جُزْءٍ، فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ كُلِّهِ. أ هـ.، وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ الدُّخُولُ بِمُصْحَفٍ إلاَّ لِحَاجَةٍ وَقَالَ: لا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ قَطْعًا وَلا يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا عَاقِلٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَلْفُوفًا فِي شَيْءٍ فَلا بَأْسَ كَذَلِكَ، وَالتَّحَرُّزُ أَوْلَى، وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ، فَلا يَحْرُمُ الدُّخُولُ بِمُصْحَفٍ، وَلا يُكْرَهُ الدُّخُولُ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ إلاَّ فِي غَيْرِ حَالِ سَتْرِهِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْجَيْبِ سَاتِرًا قَوْلانِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ ظَرْفًا مُتَّسِعًا، لَكِنْ عِنْدَ الْعَدَوِيِّ مَا يُفِيدُ أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ خَاصَّةً فِي تِلْكَ الْحَالِ مَمْنُوعٌ وَلَوْ كَانَ مَسْتُورًا، وَقَدْ أَطْلَقَ مَنْ سِوَاهُمْ الْقَوْلَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَسْتُورِ وَغَيْرِهِ فِي الْحُكْمِ، فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ، بَلْ صَرَّحَ صَاحِبُ مَجْمَعِ الأَنْهُرِ بِقَوْلِهِ: لا يَدْخُلُ وَفِي كُمِّهِ مُصْحَفٌ إلاَّ إذَا اُضْطُرَّ.
وَلَمْ يُفَرِّقْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ خَاتَمًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ غَيْرَهُ فَرَأَوْا الْكَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ الشِّيرَازِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ حَدِيثَ أَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ" وَقَالَ: وَإِنَّمَا وَضَعَهُ لأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" صلى الله عليه وسلم.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ التَّابِعِينَ فَرَأَوْا أَنْ لا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ فِيمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَأْنِ الْخَاتَمِ كَمَا خَالَفَ فِيهِ أَيْضًا مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ، أَمَّا الاِسْتِنْجَاءُ وَفِي أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ مَنْقُوشٌ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ الْفَصَّ فِي كُمِّهِ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ وَأَنْ يَجْعَلَهُ فِي يَمِينِهِ إذَا اسْتَنْجَى.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلامِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَفِعْلِهِ، وَالْكَرَاهَةُ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلامِ مَالِكٍ كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالتَّحْرِيمُ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلامِ التَّوْضِيحِ وَابْنِ عَبْدِ السَّلامِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ حَمْلَ مَا عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْخَلاءِ مَكْرُوهٌ تَعْظِيمًا لِلذِّكْرِ وَاقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ، وَكَانَ نَقْشُهُ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، قَالَ الإِسْنَوِيُّ: وَمَحَاسِنُ كَلامِ الشَّرِيعَةِ يُشْعِرُ بِتَحْرِيمِ بَقَاءِ الْخَاتَمِ الَّذِي عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْيَسَارِ حَالَ الاِسْتِنْجَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا أَفْضَى ذَلِكَ إلَى تَنْجِيسِهِ.
وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: حَيْثُ دَخَلَ الْخَلاءَ بِخَاتَمٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَسَارِهِ أَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ لأَجْلِ الاِسْتِنْجَاءِ، وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى دُخُولِ الْخَلاءِ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ جَازَ لَهُ إدْخَالُهُ، وَلَمْ يُكْرَهْ.
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لا يَحْرُمُ وَلا يُكْرَهُ، وَاكْتَفَى الْحَنَابِلَةُ بِأَنْ تَتَحَقَّقَ الْحَاجَةُ إلَيْهِ.
فَيُكْرَهُ اصْطِحَابُ شَيْءٍ فِيْهِ ذِكْرُ اللهِ إِلَى الْخَلاءِ، وَلاَ يَحْرُمُ، إِلاَّ أَن يَكُونَ مُصْحَفًا وَاصْطَحَبَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ كَانَ يَنْزِعُهُ قَبْلَ دُخُولِهِ الْخَلاءِ.
وَأَمَّا ما رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (19) حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ" فَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ، وَالْوَهْمُ فِيهِ مِنْ هَمَّامٍ، وَلَمْ يَرْوِهِ إِلاَّ هَمَّامٌ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي ("الْمُغْنِي": 231) فَصْلٌ: إذَا أَرَادَ دُخُولَ الْخَلاءِ وَمَعَهُ شَيْءٌ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى اُسْتُحِبَّ وَضْعُهُ، فَإِنْ احْتَفَظَ بِمَا مَعَهُ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَاحْتَرَزَ عَلَيْهِ مِنْ السُّقُوطِ، أَوْ أَدَارَ فَصَّ الْخَاتَمِ إلَى بَاطِنِ كَفِّهِ فَلا بَأْسَ، قَالَ أَحْمَدُ: "الْخَاتَمُ إذَا كَانَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ يَجْعَلُهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ، وَيَدْخُلُ الْخَلاءَ"، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "اقْلِبْهُ هَكَذَا فِي بَاطِنِ كَفِّك فَاقْبِضْ عَلَيْهِ"، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ، وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ الْخَلاءَ وَمَعَهُ الدَّرَاهِمُ: "أَرْجُو أَنْ لا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ".
وَقَالَ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ المِرْدَاوِيُّ الْحَنْبَلِيُّ في "ِالإِنْصَافِ" فِي مَعْرِفَةِ الرَّاجِحِ مِنْ الْخِلافِ: "وَقَطَعَ ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ بِالتَّحْرِيمِ، وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ".
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِتَحْرِيمِهِ، كَمُصْحَفٍ، قُلْتُ: أَمَّا دُخُولُ الْخَلاءِ بِمُصْحَفٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَلا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ قَطْعًا وَلا يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا عَاقِلٌ.
تَنْبِيهٌ: حَيْثُ دَخَلَ الْخَلاءَ بِخَاتَمٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، جَعَلَ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَسَارِهِ أَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ لأَجْلِ الاِسْتِنْجَاءِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي "الْمَجْمُوْعِ" شَرْحِ "الْمُهَذَّبِ": اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى اسْتِحْبَابِ تَنْحِيَةِ مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إرَادَةِ دُخُولِ الْخَلاءِ وَلا تَجِبُ التَّنْحِيَةُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: "لا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ دِرْهَمًا وَدِينَارًا أَوْ خَاتَمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ".
وَأَلْحَقَ الْغَزَالِيُّ فِي الإِحْيَاءِ وَالْوَسِيطِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى اسْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لا يَسْتَصْحِبُ شَيْئًا عَلَيْهِ اسْمٌ مُعَظَّمٌ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْجُمْهُورُ لِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي اخْتِصَاصِ هَذَا الأَدَبِ بِالْبُنْيَانِ وَجْهَانِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ يَخْتَصُّ، وَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَنَانُ وَالصَّحْرَاءُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ الْمُصَنِّفِ وَصَرَّحَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ وَإِذَا كَانَ مَعَهُ خَاتَمٌ، فَقَدْ قُلْنَا يَنْزِعُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَوْ لَمْ يَنْزِعْهُ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا وَدَخَلَ فَقِيلَ: يَضُمُّ عَلَيْهِ كَفَّهُ لِئَلاَّ يَظْهَرَ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: "إنْ لَمْ يَنْزِعْهُ جَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّهِ"، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، التَّرْخِيصَ فِي اسْتِصْحَابِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
قَالَ الْخَرَشِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي "شَرْحِ مُخْتَصَر خَلِيْل": (قَوْلُهُ: وَبِكَنِيفٍ) إلَخْ.. حَمَلَهُ الشَّارِحُ عَلَى وَرِقَةٍ أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ خَاتَمٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَسَكَتَ عَنْ نَفْسِ الذِّكْرِ قِرَاءَةً وَالْقُرْآنُ كَتْبًا وَقِرَاءَةً بَعْضًا وَكُلاً.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ تَنْحِيَةُ الْقُرْآنِ وَيُنْدَبُ تَنْحِيَةُ غَيْرِهِ مِنْ الذِّكْرِ نُطْقًا بِأَنْ يَسْكُتَ لِحُرْمَةِ نُطْقِهِ فِيهِ بِقُرْآنٍ وَكَرَاهَتِهِ بِذِكْرٍ وَكَتْبًا وُجُوبًا فَيَجِبُ تَنْحِيَةُ كَامِلِ مُصْحَفٍ وَلَوْ مَسْتُورًا كَانَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْكَتْبِ حَالَ نُزُولِ خَبَثٍ وَاسْتِبْرَاءٍ وَبَعْدَهُمَا وَقَبْلَهُمَا، وَمِنْ الْمُحَرَّمِ أَيْضًا مَا إذَا أَحْدَثَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ مُعَدًّا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فَلَمَّا تَمَّ حَاجَتَهُ أَرَادَ الْقِرَاءَةَ، وَهَذَا مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ مِنْ ارْتِيَاعٍ أَوْ خَوْفِ ضَيَاعٍ فَيَجُوزُ، وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِي مَحَلِّ الْخَلاءِ بِشَيْءٍ فِيهِ قُرْآنٌ أَوْ ذِكْرٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ مَا لَمْ تَدْعُ إلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ غَيْرَ مَسْتُورٍ، وَيَجُوزُ التَّحَرُّزُ بِبَعْضِ قُرْآنٍ مَسْتُورًا لا بِجَمِيعِهِ فِيمَا يَظْهَرُ، وَرَجَّحَ الْحَطَّابُ الْكَرَاهَةَ بِاسْتِنْجَاءٍ بِيَدٍ فِيهَا خَاتَمٌ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ مِنْ أَقْوَالٍ ثَلاثَةٍ الْجَوَازِ وَأُنْكِرَ وَالتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ (فَإِنْ قُلْت) سَيَأْتِي أَنَّهُ يَحْرُمُ الاِسْتِجْمَارُ بِالْمَكْتُوبِ وَهُوَ يُرَجِّحُ الْقَوْلَ بِحُرْمَةِ الاِسْتِجْمَارِ بِالْخَاتَمِ الْمَكْتُوبِ، قُلْت: "يُفَرَّقُ بِأَنَّ الامْتِهَانَ فِي الاِسْتِنْجَاءِ أَشَدُّ مِنْ الامْتِهَانِ بِالاِسْتِنْجَاءِ بِهِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الدُّخُولَ بِبَعْضِ قُرْآنٍ لَيْسَ كَالدُّخُولِ بِكُلِّهِ الظَّاهِرُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ صَحِيفَةٍ فِيهَا آيَاتٌ لا مِثْلِ جَزْءٍ، فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ كُلِّهِ فِيمَا يَظْهَرُ".
فِي "الْمَوْسُوْعَةِ الْفِقْهِيَّةِ": اجْتِنَابُ الدُّخُولِ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى: يُكْرَهُ الدُّخُولُ إلَى الْخَلاءِ بِشَيْءٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ"، وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ: كَانَ عَلَيْهِ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إلاَّ قَوْلاً فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ تَفْصِيلاتِ نُورِدُهَا فِيمَا يَلِي:
لَمْ يُفَرِّقْ الْجُمْهُورُ بَيْنَ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الْكَرَاهَةُ بَلْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ مَكْرُوهٌ لا حَرَامٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُصْحَفِ خَاصَّةً: إنَّ تَنْحِيَتَهُ وَاجِبَةٌ وَالدُّخُولَ بِهِ حَرَامٌ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ بِخِلافِ غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ قُرْآنٌ أَوْ ذِكْرٌ، قَالَ الْعَدَوِيُّ: يَجِبُ تَنْحِيَةُ مُصْحَفٍ وَلَوْ مَسْتُورًا، وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ بِشَيْءٍ فِيهِ قُرْآنٌ أَوْ ذِكْرٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ وَقَالَ: فَالدُّخُولُ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ لَيْسَ كَالدُّخُولِ بِكُلِّهِ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى نَحْوِ صَحِيفَةٍ فِيهَا آيَاتٌ، لا مِثْلِ جُزْءٍ، فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ كُلِّهِ. أ هـ.، وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ الدُّخُولُ بِمُصْحَفٍ إلاَّ لِحَاجَةٍ وَقَالَ: لا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ قَطْعًا وَلا يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا عَاقِلٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَلْفُوفًا فِي شَيْءٍ فَلا بَأْسَ كَذَلِكَ، وَالتَّحَرُّزُ أَوْلَى، وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ، فَلا يَحْرُمُ الدُّخُولُ بِمُصْحَفٍ، وَلا يُكْرَهُ الدُّخُولُ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ إلاَّ فِي غَيْرِ حَالِ سَتْرِهِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْجَيْبِ سَاتِرًا قَوْلانِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ ظَرْفًا مُتَّسِعًا، لَكِنْ عِنْدَ الْعَدَوِيِّ مَا يُفِيدُ أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ خَاصَّةً فِي تِلْكَ الْحَالِ مَمْنُوعٌ وَلَوْ كَانَ مَسْتُورًا، وَقَدْ أَطْلَقَ مَنْ سِوَاهُمْ الْقَوْلَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَسْتُورِ وَغَيْرِهِ فِي الْحُكْمِ، فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ، بَلْ صَرَّحَ صَاحِبُ مَجْمَعِ الأَنْهُرِ بِقَوْلِهِ: لا يَدْخُلُ وَفِي كُمِّهِ مُصْحَفٌ إلاَّ إذَا اُضْطُرَّ.
وَلَمْ يُفَرِّقْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ خَاتَمًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ غَيْرَهُ فَرَأَوْا الْكَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ الشِّيرَازِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ حَدِيثَ أَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ" وَقَالَ: وَإِنَّمَا وَضَعَهُ لأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" صلى الله عليه وسلم.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ التَّابِعِينَ فَرَأَوْا أَنْ لا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ فِيمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَأْنِ الْخَاتَمِ كَمَا خَالَفَ فِيهِ أَيْضًا مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ، أَمَّا الاِسْتِنْجَاءُ وَفِي أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ مَنْقُوشٌ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ الْفَصَّ فِي كُمِّهِ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ وَأَنْ يَجْعَلَهُ فِي يَمِينِهِ إذَا اسْتَنْجَى.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلامِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَفِعْلِهِ، وَالْكَرَاهَةُ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلامِ مَالِكٍ كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالتَّحْرِيمُ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلامِ التَّوْضِيحِ وَابْنِ عَبْدِ السَّلامِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ حَمْلَ مَا عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْخَلاءِ مَكْرُوهٌ تَعْظِيمًا لِلذِّكْرِ وَاقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ، وَكَانَ نَقْشُهُ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، قَالَ الإِسْنَوِيُّ: وَمَحَاسِنُ كَلامِ الشَّرِيعَةِ يُشْعِرُ بِتَحْرِيمِ بَقَاءِ الْخَاتَمِ الَّذِي عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْيَسَارِ حَالَ الاِسْتِنْجَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا أَفْضَى ذَلِكَ إلَى تَنْجِيسِهِ.
وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ: حَيْثُ دَخَلَ الْخَلاءَ بِخَاتَمٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَسَارِهِ أَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ لأَجْلِ الاِسْتِنْجَاءِ، وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى دُخُولِ الْخَلاءِ بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ جَازَ لَهُ إدْخَالُهُ، وَلَمْ يُكْرَهْ.
نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لا يَحْرُمُ وَلا يُكْرَهُ، وَاكْتَفَى الْحَنَابِلَةُ بِأَنْ تَتَحَقَّقَ الْحَاجَةُ إلَيْهِ.