رسالة في التوسل والوسيلةالجزءالثامن والعشرون.
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: رسالة في التوسل والوسيلةالجزءالثامن والعشرون.
الإجابة: وأما إجابة السائلين فعام؛ فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم
وإن كان كافراً، وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"
وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم ـ وهو الذى قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم أنه لا يجوز ـ ليس فى المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك، فضلا أن يجعل هذا من مسائل السب، فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوَّز التوسل به، بمعنى الإقسام به أو السؤال به، فليس معه فى ذلك نقل عن مالك وأصحابه، فضلا عن أن يقول مالك: إن هذا سب للرسول أو تنقص له، بل المعروف عن مالك أنه كره للداعى أن يقول: يا سيدى، سيدى، وقال: قل كما قالت الأنبياء: يا رب، يا رب، يا كريم.وكره أيضا أن يقول: يا حنان يا منان.فإنه ليس بمأثور عنه.
فإذا كان مالك يكره مثل هذا الدعاء، إذ لم يكن مشروعاً عنده، فكيف يجوز عنده أن يسأل الله بمخلوق نبياً كان أو غيره، وهو يعلم أن الصحابة لما أجدبوا عام الرمادة لم يسألوا الله بمخلوق، لا نبى ولا غيره، بل قال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون.
وكذلك ثبت فى صحيح مسلم عن ابن عمر وأنس وغيرهما أنهم كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبى صلى الله عليه وسلم واستسقائه، لم ينقل عن أحد منهم أنه كان فى حياته صلى الله عليه وسلم سأل اللّه تعالى بمخلوق لا بد ولا بغيره، لا فى الاستسقاء ولا غيره،
وحديث الأعمى سنتكلم عليه إن شاء اللّه تعالى، فلو كان السؤال به معروفاً عند الصحابة لقالوا لعمر: إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بالعباس،فلم نعدل عن الأمر المشروع الذى كنا نفعله فى حياته وهو التوسل بأفضل الخلق إلى أن نتوسل ببعض أقاربه ،وفى ذلك ترك السنة المشروعة وعدول عن الأفضل، وسؤال اللّه تعالى بأضعـف السببين مع القدرة على أعلاهما ــ ونحن مضطرون غاية الاضطرار فى عام الرمادة الذى يضرب به المثل فى الجدب.
والذى فعله عمر فعل مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين، فتوسلوا بيزيد بن الأسود الجُرَشِى كما توسل عمر بالعباس، وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهم أنه يتوسل فى الاستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح، قالوا: وإن كانوا من أقارب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، اقتداء بعمر، ولم يقل أحد من أهل العلم: إنه يسأل اللّه تعالى فى ذلك لا بنبى ولا بغير نبى.
وكذلك من نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين ــ غير مالك ــ كالشافعى وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم، ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذى فيها هو هذا، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، ولكن من الناس من يحرف نقلها، وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء اللّه تعالى.
والقاضى عياض لم يذكرها فى كتابه فى باب زيارة قبره، بل ذكر هناك ما هو المعروف عن مالك وأصحابه، وإنما ذكرها فى سياق أن حرمة النبى صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوقيره وتعظيمه لازم، كما كان حال حياته، وكذلك عند ذكره وذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه.
وذكر عن مالك أنه سئل عن أيوب السختيانى فقال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه. قال: وحج حجتين، فكنت أرمقه فلا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبى صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.
وقال مصعب بن عبد اللّه: كان مالك إذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحنى، حتى يصعب ذلك على جلسائه. فقيل له يوماً فى ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم على ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المُنْكَدِر ــ وكان سيد القراء ــ لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكى حتى نرحمه. ولقد كنت أرى جعفر بن محمد ــ وكان كثير الدعابة والتبسم ــ فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة. ولقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن. ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون اللّه
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبى صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه فى فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد كنت آتى عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى فى عينيه دموع.
ولقد رأيت الزهرى ــ وكان لَمِنْ أهنأ الناس وأقربهم ــ فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته.
ولقد كنت آتى صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكى حتى يقوم الناس عنه ويتركوه.
فهذا كله نقله القاضى عياض من كتب أصحاب مالك المعروفة، ثم ذكر حكاية بإسناد غريب منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات، قال: حدثنا أبو الحسن على بن فِهْر، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن إبى إسرائيل، حدثنا ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك فى هذا المسجد، فإن الله أدب قوماً فقال: { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } الآية [الحجرات: 2]،
ومدح قوماً فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ } الآية [الحجرات: 3]، وذم قوماً فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ } الآية [الحجرات: 4]، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقْبِلُ القبلة وأدعوا ؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللّه، قال اللّه تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا }[النساء:64].
قلت وهذه الحكـاية منقطعة؛ فإن محمد بـن حـميد الـرازى لم يَدرك مالكا، لاسـيما فى زمن أبـى جعفـر المنصـور، فإن أبـا جعفـر توفى بمكـة سـنة ثمـان وخمسـين ومـائة، وتوفى مالك سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفى محمد بن حميد الرازى سنة ثمان وأربعين ومائتين، ولم يخرج من بلده حين رحل فى طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذبه أبو زُرْعَة، وابن وارة، وقال صالح بن محمد الأسدى: ما رأيت أحداً أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه. وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال النسائى: ليس بثقة. وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات.
وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب وتوفى سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد بن إسماعيل السهمى توفى سنة تسع وخمسين ومائتين. وفى الإسناد أيضاً من لا تعرف حاله.
وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته؟! هذا إذا ثبت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له فى مسألة فى الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم، ومروان بن محمد الطاطرى ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث ؟ مع أن قوله: (وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم ــ عليه السلام ــ إلى اللّه يوم القيامة" إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة، وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، وهذا حق، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة حين تأتى الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال: " " ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه :
أحدها: قوله:(أستقبلُ القبلة وأدعُو، أم أستقبلُ رسول اللّه وأدعُو ؟) فقال:"ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم). فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين،أن الداعى إذا سلم على النبى صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعوا لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو فى مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه،بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبى صلى الله عليه وسلم والدعاء له. هذا قول أكثر العلماء كمالك فى إحدى الروايتين والشافعى وأحمد وغيرهم.
وعند أصحاب أبى حنيفة لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضًا.
ثم منهم من قال: يجعل الحجرة على يساره ــ وقد رواه ابن وهب عن مالك ــ ويسلم عليه.
ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه، وهذا هو المشهور عندهم، ومع هذا فَكَرِهَ مالك أن يطيل القيام عند القبر لذلك. قال القاضى عياض فى المبسوط عن مالك قال: (لا أرى أن يقف عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضى) قال: وقال نافع: كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مائة مرة أو أكثر يجىء إلى القبر فيقول: السلام على النبى صلى الله عليه وسلم، السلام على أبى بكر، السلام على أبى. ثم ينصرف. ورؤى واضعا يده على مقعد النبى صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه.
قال: وعن ابن أبى قُسَيْط والَقَعْنَبِى كان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد جسوا برمانة المنبر التى تلقاء القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون.
قال: وفى الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثى أنه كان ــ يعنى ابن عمر ــ يقف على قبر النبى صلى الله عليه وسلم فيصلى على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى أبى بكر وعمر، وعند ابن القاسم والقعنبى: ويدعو لأبى بكر وعمر.
قال مالك فى رواية ابن وهب: يقول: السـلام عليـك أيهـا النبى ورحمـة اللّه وبركاته. وقال فى المبسـوط: ويسلم على أبى بكر وعمر.
قال أبو الوليد الباجى: وعندى أن يدعو للنبى صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة ولأبى بكر وعمر بلفظ السلام لما فى حديث ابن عمر من الخلاف.
وهذا الدعاء يفسر الدعاء المذكور فى رواية ابن وهب، قال مالك فى رواية ابن وهب: إذا سلم على النبى صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ولا يمس القبر.
فهذا هو السلام عليه والدعاء له بالصلاة عليه ــ كما تقدم تفسيره.
وكذلك كل دعاء ذكره أصحابه كما ذكر ابن حبيب فى الواضحة وغيره قال: وقال مالك فى المبسوطة: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء.
وقال فيه أيضا: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر، أن يقف على قبر النبى صلى الله عليه وسلم فيصلى عليه ويدعو له ولأبى بكر وعمر. قيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك فى اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا فى الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة. فقال مالك: لم يبلغنى هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغنى عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها، أو دخلوا أتو القبر فسلموا، قال: ولذلك رأى...
قال أبو الوليد الباجى: ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم.
قال: وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " " قال: وقال النبى صلى الله عليه وسلم " ".
قال: ومن كتاب أحمد بن شعبة فيمن وقف بالقبر لا يلتصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلا، وفى [العتبية] يعنى عن مالك: يبدأ بالركوع قبل السلام فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم، وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبى صلى الله عليه وسلم حيث العمود المخلق، وأما فى الفريضة فالتقدم إلى الصفوف. قال: والتنفل فيه للغرباء أحب إلى من التنفل فى البيوت.
فهذا ــ قول مالك وأصحابه وما نقلوه عن الصحابة ــ يبين أنهم لم يقصدوا القبر إلا للسلام على النبى صلى الله عليه وسلم والدعاء له.
وقد كره مالك إطالة القيام لذلك، وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له، فإنه تحية للنبى صلى الله عليه وسلم.
" قالوا: يا رسول الله، إذاً نكثر.قال: " ".وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم ـ وهو الذى قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم أنه لا يجوز ـ ليس فى المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك، فضلا أن يجعل هذا من مسائل السب، فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوَّز التوسل به، بمعنى الإقسام به أو السؤال به، فليس معه فى ذلك نقل عن مالك وأصحابه، فضلا عن أن يقول مالك: إن هذا سب للرسول أو تنقص له، بل المعروف عن مالك أنه كره للداعى أن يقول: يا سيدى، سيدى، وقال: قل كما قالت الأنبياء: يا رب، يا رب، يا كريم.وكره أيضا أن يقول: يا حنان يا منان.فإنه ليس بمأثور عنه.
فإذا كان مالك يكره مثل هذا الدعاء، إذ لم يكن مشروعاً عنده، فكيف يجوز عنده أن يسأل الله بمخلوق نبياً كان أو غيره، وهو يعلم أن الصحابة لما أجدبوا عام الرمادة لم يسألوا الله بمخلوق، لا نبى ولا غيره، بل قال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون.
وكذلك ثبت فى صحيح مسلم عن ابن عمر وأنس وغيرهما أنهم كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبى صلى الله عليه وسلم واستسقائه، لم ينقل عن أحد منهم أنه كان فى حياته صلى الله عليه وسلم سأل اللّه تعالى بمخلوق لا بد ولا بغيره، لا فى الاستسقاء ولا غيره،
وحديث الأعمى سنتكلم عليه إن شاء اللّه تعالى، فلو كان السؤال به معروفاً عند الصحابة لقالوا لعمر: إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بالعباس،فلم نعدل عن الأمر المشروع الذى كنا نفعله فى حياته وهو التوسل بأفضل الخلق إلى أن نتوسل ببعض أقاربه ،وفى ذلك ترك السنة المشروعة وعدول عن الأفضل، وسؤال اللّه تعالى بأضعـف السببين مع القدرة على أعلاهما ــ ونحن مضطرون غاية الاضطرار فى عام الرمادة الذى يضرب به المثل فى الجدب.
والذى فعله عمر فعل مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين، فتوسلوا بيزيد بن الأسود الجُرَشِى كما توسل عمر بالعباس، وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهم أنه يتوسل فى الاستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح، قالوا: وإن كانوا من أقارب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، اقتداء بعمر، ولم يقل أحد من أهل العلم: إنه يسأل اللّه تعالى فى ذلك لا بنبى ولا بغير نبى.
وكذلك من نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين ــ غير مالك ــ كالشافعى وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم، ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذى فيها هو هذا، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، ولكن من الناس من يحرف نقلها، وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء اللّه تعالى.
والقاضى عياض لم يذكرها فى كتابه فى باب زيارة قبره، بل ذكر هناك ما هو المعروف عن مالك وأصحابه، وإنما ذكرها فى سياق أن حرمة النبى صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوقيره وتعظيمه لازم، كما كان حال حياته، وكذلك عند ذكره وذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه.
وذكر عن مالك أنه سئل عن أيوب السختيانى فقال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه. قال: وحج حجتين، فكنت أرمقه فلا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبى صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.
وقال مصعب بن عبد اللّه: كان مالك إذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحنى، حتى يصعب ذلك على جلسائه. فقيل له يوماً فى ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم على ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المُنْكَدِر ــ وكان سيد القراء ــ لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكى حتى نرحمه. ولقد كنت أرى جعفر بن محمد ــ وكان كثير الدعابة والتبسم ــ فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة. ولقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن. ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون اللّه
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبى صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه فى فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد كنت آتى عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى فى عينيه دموع.
ولقد رأيت الزهرى ــ وكان لَمِنْ أهنأ الناس وأقربهم ــ فإذا ذكر عنده النبى صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته.
ولقد كنت آتى صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكى حتى يقوم الناس عنه ويتركوه.
فهذا كله نقله القاضى عياض من كتب أصحاب مالك المعروفة، ثم ذكر حكاية بإسناد غريب منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات، قال: حدثنا أبو الحسن على بن فِهْر، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن إبى إسرائيل، حدثنا ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك فى هذا المسجد، فإن الله أدب قوماً فقال: { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } الآية [الحجرات: 2]،
ومدح قوماً فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ } الآية [الحجرات: 3]، وذم قوماً فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ } الآية [الحجرات: 4]، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقْبِلُ القبلة وأدعوا ؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللّه، قال اللّه تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا }[النساء:64].
قلت وهذه الحكـاية منقطعة؛ فإن محمد بـن حـميد الـرازى لم يَدرك مالكا، لاسـيما فى زمن أبـى جعفـر المنصـور، فإن أبـا جعفـر توفى بمكـة سـنة ثمـان وخمسـين ومـائة، وتوفى مالك سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفى محمد بن حميد الرازى سنة ثمان وأربعين ومائتين، ولم يخرج من بلده حين رحل فى طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذبه أبو زُرْعَة، وابن وارة، وقال صالح بن محمد الأسدى: ما رأيت أحداً أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه. وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال النسائى: ليس بثقة. وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات.
وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب وتوفى سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد بن إسماعيل السهمى توفى سنة تسع وخمسين ومائتين. وفى الإسناد أيضاً من لا تعرف حاله.
وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته؟! هذا إذا ثبت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له فى مسألة فى الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم، ومروان بن محمد الطاطرى ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث ؟ مع أن قوله: (وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم ــ عليه السلام ــ إلى اللّه يوم القيامة" إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة، وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، وهذا حق، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة حين تأتى الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال: " " ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه :
أحدها: قوله:(أستقبلُ القبلة وأدعُو، أم أستقبلُ رسول اللّه وأدعُو ؟) فقال:"ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم). فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين،أن الداعى إذا سلم على النبى صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعوا لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو فى مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه،بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبى صلى الله عليه وسلم والدعاء له. هذا قول أكثر العلماء كمالك فى إحدى الروايتين والشافعى وأحمد وغيرهم.
وعند أصحاب أبى حنيفة لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضًا.
ثم منهم من قال: يجعل الحجرة على يساره ــ وقد رواه ابن وهب عن مالك ــ ويسلم عليه.
ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه، وهذا هو المشهور عندهم، ومع هذا فَكَرِهَ مالك أن يطيل القيام عند القبر لذلك. قال القاضى عياض فى المبسوط عن مالك قال: (لا أرى أن يقف عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضى) قال: وقال نافع: كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مائة مرة أو أكثر يجىء إلى القبر فيقول: السلام على النبى صلى الله عليه وسلم، السلام على أبى بكر، السلام على أبى. ثم ينصرف. ورؤى واضعا يده على مقعد النبى صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه.
قال: وعن ابن أبى قُسَيْط والَقَعْنَبِى كان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد جسوا برمانة المنبر التى تلقاء القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون.
قال: وفى الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثى أنه كان ــ يعنى ابن عمر ــ يقف على قبر النبى صلى الله عليه وسلم فيصلى على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى أبى بكر وعمر، وعند ابن القاسم والقعنبى: ويدعو لأبى بكر وعمر.
قال مالك فى رواية ابن وهب: يقول: السـلام عليـك أيهـا النبى ورحمـة اللّه وبركاته. وقال فى المبسـوط: ويسلم على أبى بكر وعمر.
قال أبو الوليد الباجى: وعندى أن يدعو للنبى صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة ولأبى بكر وعمر بلفظ السلام لما فى حديث ابن عمر من الخلاف.
وهذا الدعاء يفسر الدعاء المذكور فى رواية ابن وهب، قال مالك فى رواية ابن وهب: إذا سلم على النبى صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ولا يمس القبر.
فهذا هو السلام عليه والدعاء له بالصلاة عليه ــ كما تقدم تفسيره.
وكذلك كل دعاء ذكره أصحابه كما ذكر ابن حبيب فى الواضحة وغيره قال: وقال مالك فى المبسوطة: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء.
وقال فيه أيضا: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر، أن يقف على قبر النبى صلى الله عليه وسلم فيصلى عليه ويدعو له ولأبى بكر وعمر. قيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك فى اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا فى الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة. فقال مالك: لم يبلغنى هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغنى عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها، أو دخلوا أتو القبر فسلموا، قال: ولذلك رأى...
قال أبو الوليد الباجى: ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم.
قال: وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " " قال: وقال النبى صلى الله عليه وسلم " ".
قال: ومن كتاب أحمد بن شعبة فيمن وقف بالقبر لا يلتصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلا، وفى [العتبية] يعنى عن مالك: يبدأ بالركوع قبل السلام فى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم، وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبى صلى الله عليه وسلم حيث العمود المخلق، وأما فى الفريضة فالتقدم إلى الصفوف. قال: والتنفل فيه للغرباء أحب إلى من التنفل فى البيوت.
فهذا ــ قول مالك وأصحابه وما نقلوه عن الصحابة ــ يبين أنهم لم يقصدوا القبر إلا للسلام على النبى صلى الله عليه وسلم والدعاء له.
وقد كره مالك إطالة القيام لذلك، وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له، فإنه تحية للنبى صلى الله عليه وسلم.