حكم البضاعة برسم البيع وزكاتها

حسام الدين عفانه

  • التصنيفات: فقه المعاملات -
السؤال:

أخذت كمية من الشنط المدرسية من تاجرٍ برسم البيع، فما أبيعه أدفع له ثمنه، وما لم أبعه أردُّه له، فما الحكم في ذلك، وعلى من تكون زكاة هذه البضاعة؟

الإجابة:

هذه المعاملة مشهورة بين التجار في بلادنا بأنها بضاعة برسم البيع، وقد أشار لها فقهاء الحنابلة قديماً، فقد قال الشيخ ابن قدامة المقدسي عند كلامه على الشروط في البيع: "مثل أن يشترط أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق ولا يطأ أو يشترط عليه أن يبيعه أو يَقِفَهُ أو متى نفق المبيعُ وإلا ردَّه" المغني4/309، فقول ابن قدامة: "متى نفق المبيعُ وإلا ردَّه" يدل على هذا النوع من العقود، وهذا العقد يعرف الآن في السعودية ودول الخليج بالبيع على التصريف، وسماه بعض المعاصرين عقد التصريف، وهو: "عقد يتم بمقتضاه، التزام أحد المتعاقدين للآخر، بإتمام الصفقة من عدمها، أو تعليقها على ترويج المعقود عليه، أو تفويضه بالترويج المعقود عليه، أو تفويضه بالترويج بمبلغ معين" عقد التصريف ص4.

ولعقد التصريف عدة صورٍ، منها الصورة محل السؤال، وهي: "بيعٌ مع الشرط التقييدي المقترن بالعقد. والمراد بالشرط التقييدي هو ما يضعه الناس بعضهم على بعض في عقودهم، وتصرفاتهم من التزامات زائدة تُعَدِلُ ُآثار العقد أو التصرف. والمثال على صورة البيع مع الشرط التقييدي المقترن بالعقد: هو أن يتم البيع بين طرفين ويشتري المشتري على أنه إن باع تلك السلعة أو بعضها أو قام بتصريفها، وإلا فله ردّها، أو رد بعضها مما لم يُبَع، أو يقول المشتري: اشتريت السلعة بشرط أنه إنْ صُرِّفت البضاعة ونفق المبيع وإلا رددته. وهذه الصورة هي غالب تعاملات الناس اليوم في عقد التصريف خاصة في المنتجات التي تستهلك، ويحتاجها الناس يومياً، مثل الألبان الطازجة ومشتقاتها، وكالجرائد والمجلات، وهذه المنتجات وما شابهها يتنافس فيها الباعة تنافساً محموماً، فربما قدّم كثير من أصحاب تلك المنتجات والسلع إلى أصحاب المحلات والمتاجر الكبيرة الوسائلَ التي تحفظ منتجاتهم وتحمل شعاراتهم كالثلاجات ونحوها من غير مقابلٍ ماديٍ يدفعه المشتري صاحب المحل، وسيلةً من وسائل الدعاية والإعلان لهذا المنتج، وطريقةً لجذب الزبائن والعملاء، وربما استتبعها بعض الحوافز التي يقدمها البائعون من أصحاب المنتجات والماركات والعلامات التجارية لصاحب المتجر والمحل، أو للزبائن؛ لترغيبهم في شراء منتجاتهم وتسويقها وعدم إرجاعها إليهم من قِبَل أصحاب المحلات" عقد التصريف ص6.

وقد اختلف الفقهاء في حكم هذا العقد مع الشرط، أي متى نفق المبيعُ وإلا ردَّه، فقال جمهور الفقهاء ببطلان العقد والشرط، وهو قول الحنفية والمالكية في المشهور عندهم والشافعية والظاهرية وهو رواية عن الإمام أحمد كما قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "والثانية: البيع فاسد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، ولأنه شرطٌ فاسدٌ فأفسد البيع كما لو شرط فيه عقداً آخر، ولأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وذلك مجهول، فيصير الثمن مجهولاً، ولأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرط والمشتري كذلك إذا كان الشرط له فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع من شرطه التراضي" المغني4/309.

ومن الفقهاء من قال بصحة العقد دون الشرط "قال القاضي: المنصوص عن أحمد: أن البيع صحيح وهو ظاهر كلام الخرقي ههنا وهو قول الحسن والشعبي والنخعي والحكم وابن أبي ليلى وأبي ثور" المصدر السابق.

وقد احتج الشيخ ابن قدامة المقدسي لهذا القول فقال: "ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقيه فأعينيني. فقلت: إن أحبَّ أهلُك أن أعدها لهم عدة واحدة ويكون لي ولاؤك فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني عرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها واشترطي الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق. ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق" (متفق عليه) فأبطل الشرط ولم يبطل العقد] المصدر السابق.

والقول الثالث في المسألة وهو أرجحها، القول بصحة العقد وبصحة الشرط، وهذا القول نقل عن عمر وعلي وابن مسعود وشريح القاضي والشعبي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ونسبه إلى الإمام أحمد، وقال: وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول، وقال أيضاً: "وعلى أكثر نصوصه –يعني الإمام أحمد– يجوز أن يشترط على المشتري فعلاً، أو تركاً في المبيع مما هو مقصود للبائع، أو للمبيع نفسه، وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق وقد يروى ذلك عنه، لكن الأول أكثر كلامه واختاره أيضاً تلميذه ابن القيم" عقد التصريف ص10.

ومما يدل على صحة العقد والشرط معاً عموم النصوص الآمرة بالوفاء بالعقود، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فالآية الكريمة أوجبت الوفاء بالعقود من غير تعيين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً" (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ "المسلمون عند شروطهم" أي بدون الاستثناء). كما أن الآثار عن الصحابة تشهد على ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل العقلاء جميعاً" مجموع الفتاوى 29/516 والقواعد النورانية ص53.

وقال د. عبدالله السلمي: "إن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد، لأن الله قال في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] وقال سبحانه: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4]، فعلَّق جواز الأكل على طيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدل على أنه سببٌ له، وهو حكمٌ معلقٌ على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم، وإذا كان كذلك، فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرعٍ، ثبت بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله، وشرط التصريف مما لم يحرمه الله سبحانه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك فإن الناس محتاجون إلى مثل هذه البيوع بشروطها، والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع، لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج إليه في ذلك كما أباح بيع الثمار قبل بدو صلاحها مبقاة إلى الجذاذ، وإن كان بعض المبيع لم يخلق، وكما أباح أن يشترط المشتري ثمرة النخل المؤبر، وذلك اشتراء قبل بدو صلاحها، لكنه تابع للشجرة، وأباح بيع العرايا بخرصها، فأقام التقدير بالخرص مقام التقدير بالكيل عند الحاجة، مع أن ذلك يدخل في باب الفضل لتحصيل أعظم المصلحتين، بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين، بالتزام أدناهما" عقد التصريف ص 28.

ومما يدل على الجواز أيضاً ما قرره فقهاؤنا من أن الأصل في باب المعاملات الإباحة، قـال شيخ الإسـلام ابن تيميـة: "والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرمه الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله وأشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ما حللته والحرام ما حرمته والدين ما شرعته" مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/386.

وقال العلامة ابن القيم: "والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم، والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين. وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفواً لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه؟ وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء:34]. وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32]. وقال تعالى: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} [البقرة:177]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]. وقال: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} [آل عمران:76]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58]. وهذا كثير في القرآن". ثم ذكر ابن القيم عدداً من الأحاديث التي تدل على صحة ما قاله. إعلام الموقعين عن رب العالمين 3/107-112.

وأما بالنسبة لزكاة البضاعة برسم البيع، فإن المقرر عند الفقهاء أن الملك التام شرط لوجوب الزكاة في المال، وبناءً على ذلك فإن الزكاة واجبة على المالك بشروطها، فالتاجر الذي أعطى البضاعة برسم البيع يلزمه أن يزكيها مع أمواله، والتاجر الذي أخذ البضاعة برسم البيع يلزمه أن يزكي حصته من الربح بعد أن يضيفها إلى أمواله.
وخلاصة الأمر أن جعل البضاعة برسم البيع، فما يبيعه التاجر يدفع ثمنه، وما لم يبعه يردُّه لصاحبه، عقد جائز شرعاً على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو يتماشى مع الأصل المقرر عند الفقهاء أن الأصل في العقود والشروط الجواز، وأما زكاة تلك البضاعة فعلى مالكها، ويزكي الآخر حصته من ثمنها بعد أن تتحقق شروط الزكاة عندهما.

الجمعة, 14 أكتوبر 2011.