ضوابط المنافسة في المناقصات والعطاءات

حسام الدين عفانه

  • التصنيفات: فقه المعاملات -
السؤال:

نحن مجموعة من التجار نشتغل في مجال معين من التجارة، وعندما يُعلن عن عطاءٍ لإحدى المؤسسات، نتفق على الأسعار، وعلى التاجر الذي سيأخذ هذا العطاء، وندفع مبلغًا من المال لبعض التجار حتى لا يتقدموا للعطاء، فما الحكم الشرعي في ذلك؟

الإجابة:

ما يعرف بالعطاء أو العطاءات هو عقد المناقصة، وهو من العقود المستحدثة، والمناقصة هي: (إجراء بمقتضاه تلتزم الجهة المعلنة عنه بالتعاقد مع صاحب عرض العوض الأقل من عروض المتنافسين للفوز فيه، نظير الوفاء بما التزم به مطابقًا للشروط والمواصفات المقررة) (عقـود المناقصـات في الفقه الإسلامي لعاطف أبو هربيد).

والمناقصة كما هو واضح من هذا التعريف أنها عقد من عقود المنافسة، وأن التعاقد يكون مع صاحب عرض العوض الأقل نظير الوفاء بما التزم به مطابقًا للشروط والمواصفات المقررة من الجهة المعلنة، وعقد المناقصة عقدٌ مستحدثٌ، وهو عبارة عن منظومة من العقود وليست عقدًا واحدًا، فهو يتضمن عقد بيع دفتر الشروط ( وثائق ومستندات المناقصة)، وعقد الضمان، والعقد المتعلق بموضوع المناقصة (بيع سلع كالتوريد، أو بيع منفعة كالإجارة، أو الاستصناع)، فهذه العقود مجتمعة في عقد واحد، والعاقدان هما الجهة المعلنة عن العطاء ومن ترسو عليه المناقصة، (انظر المصدر السابق).

ولا مانع شرعًا من اجتماع عقود في عقدٍ واحدٍ، عملًا بالأصل في العقود والشروط كما هو القول الراجح عند كثيرٍ من علماء العصر، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا دليل واضح على قدرة الشريعة الإسلامية على مراعاة المستجدات والقضايا المعاصرة.

ومن المعلوم أن الأصل في العقود الإباحة كما هو مقرر عند الفقهاء، قال العلامة ابن القيم: "والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم، وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه؟

وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْد}ِ [الإسراء:34]، وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32]، وقال تعالى: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} [البقرة:177]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3]، وقال: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} [آل عمران:76]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58]، وهذا كثير في القرآن .

ثم ذكر ابن القيم عددًا من الأحاديث التي تدل على صحة ما قاله (إعلام الموقعين عن رب العالمين 3/107-112).

إذا تقرر هذا فلا بد أن نعرف الضوابط الشرعية المتعلقة بمبدأ المنافسة المشروعة في المناقصات والعطاءات، حتى تكون المنافسة بين المتقدمين للعطاءات والمناقصات شريفة، إن تحقيق مبدأ المساواة بين المناقصين يستوجب توفر مجموعة من القواعد الأساسية منها:

1ـ الإعلان عن المناقصة بنشر بيان الرغبات والشروط الأساسية على نطاقٍ واسعٍ في صحف واسعة الانتشار، بحيث تكون دقيقة وواضحة قدر الإمكان، لإتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن من المناقِصين في المشاركة.

2ـ عدم ذكر مواصفات أو شروط لا تنطبق إلا على متعهد بعينه.

3 ـ منح مهلة أو فرصة زمنية كافية لتقديم العروض والعطاءات.

4ـ عدم إجراء تعديلات في الشروط أو المواصفات لمصلحة أحد من المناقِصين.

5ـ عدم السماح لشخصٍ واحدٍ أو أكثر سواء كان طبيعي أو اعتباري من التسجيل بأكثر من اسم واحد، أو أن يتقدم بأكثر من عطاء واحد.

6ـ عدم التحيز في دراسة العطاءات والعروض، فينبغي أن تكون معايير قبول أو استبعاد العروض واحدة، وكذلك دراستها وفحصها والبت فيها، وأن يُعطى كل مناقِص نفس القدر من المعلومات التي قدمت لغيره، من غير مراعاة خاصة لأحد.

7ـ ينبغي اتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان سرية العطاءات المقدمة، وعدم تسريبها، وإجراء عملية فتح العطاءات في وقتها ومكانها المحدد، مع عدم النظر في العروض المتأخرة عن الموعد، إلا إذا كانت هناك ظروف استثنائية تسمح به الإعلانات.

8 ـ ألا يُؤخذ العطاء الأقل إلا إذا كانت سائر الشروط والمواصفات متساوية، حتى لا يُفسح المجال للتلاعب والاحتيال.

9ـ عدم العدول عن التعاقد مع المناقِص صاحب العطاء الأقل، إلا بإبداء سبب العدول.

10ـ إذا تساوى عطاءان أو أكثر يُصار إلى التفاوض لاختيار عطاءٍ واحد، فإن بقي التساوي قائمًا بعد ذلك، وتجزئة العقد ممكنة وغير ضارة بالمصلحة قُسم بينهما، وإلا فالقرعة هي الوسيلة لاختيار أحدهما. (عقـود المناقصـات في الفقه الإسلامي عاطف أبو هربيد).

ونلاحظ أن جميع هذه الضوابط متعلقة بالجهة المعلنة عن العطاء أو المناقصة، وهنالك ضوابط أخرى متعلقة بمن يتقدمون للعطاءات والمناقصات، وهي:

أولًا: لا يجوز شرعًا الاتفاق بين المتقدمين للعطاءات والمناقصات على الأسعار قبل الدخول في العطاءات والمناقصات، لما في ذلك من الإضرار بالجهة المعلنة عن العطاء والمناقصة، لأن الغرض من العطاءات والمناقصات هو الحصول على سعر أقل بالشروط الموضوعة من الجهة المعلنة، ولأن الاتفاق المسبق بين المتقدمين للعطاءات والمناقصات على الأسعار، فيه نوعٌ من الخديعة والغش للجهة المعلنة عن العطاء والمناقصة، ومن المعلوم أن من قواعد المعاملات في الشريعة الإسلامية تحريم الغش والخديعة، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غشنا فليس منا " (رواه مسلم).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار" (رواه ابن حبان والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/164).

وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية عن اتفاق المشترين للسلعة من المزاد العلني على أن لا يزيدوا الثمن عن حدٍ معينٍ فأجابت: "تواطؤ المشترين للسلعة من الحراج أو غيره على أن يقفوا بسعر السلعة عند حدٍ معيّنٍ من الأثرة الممقوتة، والإضرار بأرباب السلع، وكل من الأثرة وإضرار الإنسان بغيره ممنوع، وهو خُلقٌ ذميمٌ لا يليق بالمسلمين ولا ترضاه الشريعة الإسلامية، وعلى ذلك يكون للبائع المتواطَئ على منع الزيادة في سلعته الخيار إن ظهر أنه مغبون (أي مخدوع) في سلعته، إن شاء طلب فسخ البيع وإن شاء أمضاه" (اهـ، فتاوى اللجنة الدائمة13/114).

ثانيًا: يمنع شرعًا تقديم رشوة أو نحوها لمسئولٍ أو موظفٍ لترسو المناقصة على شخص بعينه، فقد ثبت في الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي، (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/261).

وتعتبر الرشوة من السحت، كما قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42]، وقال الله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:62]، وقال تعالى: {لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63]، قال أهل التفسير في قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي الحرام وسمي المال الحرام سحتًا، لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها، (انظر تفسير القرطبي 6/183).

قال الحافظ ابن عبد البر: "وفيه دليلٌ على أن كل ما أخذه الحاكم والشاهد على الحكم بالحق أو الشهادة بالحق سحت، وكل رشوة سحت، وكل سحت حرام، ولا يحل لمسلمٍ أكله، وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين"، وقال جماعة من أهل التفسير في قول الله عز وجل: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قالوا: "السحت الرشوة في الحكم، وفي السحت كل ما لا يحل كسبه" (فتح المالك 8/223).

ويضاف إلى ذلك أن المسؤول أو الموظف إذا كان له علاقة بترسية العطاء، فأخذ رشوة أو هدية -وكلاهما في حقه سواء- فإنه يأخذ الحرام، فقد روى الإمام البخاري بسنده عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا مالكم وهذا أهدي إليَّ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي؟ فهلَّا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر".

ثالثًا: يمنع شرعًا تقديم رشوة أو نحوها لأحد الأشخاص أو الجهات لئلا يتقدم للعطاء، أو ليتقدم للعطاء أو المناقصة مع وضع أسعار مرتفعة حتى لا يرسو العطاء أو المناقصة عليه.

وخلاصة الأمر أن المناقصة عقدٌ مستحدثٌ وهو عقدٌ مشروع، وله شروطه ومواصفاته، والمطلوب شرعًا أن يكون التقدم للمناقصات شريفًا، وأن تكون المنافسة نزيهة بعيدة عن الرشوة والواسطة والمحسوبية، وبالتالي يحرم شرعًا تقديم هدية أو رشوة من أجل الدخول في المناقصة.

تاريخ الفتوى: الجمعة 17- ديسمبر -2010.