من قدم إلى مِصْر، هل يخرج عن حدِّ المسافر

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: فقه الصلاة -
السؤال:

كيفيَّة صلاة القصر للمُسافِر، في حالةِ ما إذا كان المسافرُ ينوي الإقامة في البلدةِ التي يقْصِدها ثلاثةَ أيَّام، وإذا كان ينوي الإقامة عشَرة أيَّام وأكثر؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنَّ العلماءَ قدِ اختلفوا في تقدير المدَّة التي إذا نَواها المُسافِر، صار في حُكْمِ المُقيم:

فذهبتِ الحنفيَّة إلى: أنَّه يَصير مقيمًا، ويَمتنع عليْه القصرُ، إذا نوى إقامةَ خَمسةَ عشرَ يومًا فصاعدًا، فإنْ نوى تِلْك المدَّة أو أكثر، لزِمه الإتْمام، وإن نوى أقلَّ من ذلِك، قصر الصَّلاة.

وذهبتِ المالكيَّة والشافعيَّة إلى: أنَّ المسافر يقصر الصلاة إلا أن ينوي إقامةَ أربعة أيَّام -غيْر يومي الدُّخول والخُروج- فيتمَّ الصلاة.

وذهب الحنابلةُ إلى: أنَّه يقصُر الصلاة؛ إلا أن ينوِي الإقامةَ أكثرَ من أربعةِ أيَّام، أو أكثَر من إحدى وعِشْرين صلاةً، ويُحسب من المدَّة يومَا الدُّخول والخروج.

وذهبَ شيخُ الإسلام ابن تيمية إلى: أنَّ للمسافر أنْ يقصُرَ أبدًا؛ لأنَّ الأصل السَّفر، ما دام لم ينوِ الإقامة المطلقة.

واستدل بما روى الأثرم عن عبدالرحمن بن المسْور عن أبيه قال: "أقمْنا مع سعدٍ بعُمَان -أو بعمَّان– شهريْن، فكان يصلِّي ركعتَين ونصلِّي أربعًا، فذكرْنا ذلك له، فقال: نحن أعلم".

وعن نافعٍ: "أنَّ ابنَ عُمر أقام بأذربيجان ستَّة أشهُر يصلي ركعتين، وقد حال الثَّلجُ بيْنه وبين الدُّخول".

وعن أنسِ بنِ مالك، أقام بالشَّام سنتَيْن يقصر الصلاة.

وعن سالمٍ قال: "كان ابن عمر إذا أقام بمكَّة قصَر الصَّلاة؛ إلا أن يصلِّي مع الإمام، وإن أقام شهريْن؛ إلا أن يُجْمِع الإقامة".

وعن نافعٍ قال: "ما كان ابنُ عُمر يصلِّي بمكَّة إلا ركعتيْن، إلا أن يُزْمِع المقام".

وعن أبي وائل قال: "خرج مسروقٌ إلى السلسلة، فقصَر الصَّلاة، فأقام سنينَ يقصُر، حتَّى رجع وهو يقصُر، قيل: يا أبا عائشةَ، ما يَحملك على هذا؟ قال: اتِّباعَ السُّنَّة". اهـ. مختصرًا.

وسببُ الخِلاف بين أهْلِ العِلْم: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم لم يحدَّ حدًّا في مدَّة السَّفر، التي يُقْصَر فيها والتي لا يقصر؛ وإنَّما الثَّابت عنه: أنَّه كان صلَّى الله عليْه وسلَّم يقصُر مدَّة إقامتِه، وكلَّما سافر قصَر الصلاة، ولم يُحْفَظ عنْه أنَّه أتمَّ بعد مدَّة معينة، فقال من ذهب إلى أنه يقصر أبدًا: ولا دليلَ على التَّمام فيما بعْد تِلك المدَّة، ولا شكَّ أنَّ قصْره صلَّى الله عليه وسلَّم في تلك المدَّة لا ينفي القصْر فيما زاد عليْها، والمعتبر صِدْق اسمِ المسافِر على المقيم المتردِّد، فمن صدَق عليه هذا الاسمُ قصَر؛ لأنَّ المعتبر هو السَّفر لانضباطِه، لا المشقَّة لعدم انضباطها.

قال شيخ الإسلام: "ولم يحدَّ السَّفر بزمان أو بمكان، ولا حدَّ الإقامة أيضًا بزمنٍ محدود، لا ثلاثةٌ، ولا أربعةٌ، ولا اثنا عشر، ولا خمسةَ عشرَ، فإنَّه يقصر كما كان غيرُ واحدٍ من السَّلف يفعل، حتَّى كان مسروق قد ولَّوه ولايةً -لَم يكُن يَختارُها- فأقام سنينَ يقصُر الصَّلاة، وقد أقام المسلِمون بنهاوند ستَّة أشهُر يقصُرون الصَّلاة، وكانوا يقصُرون الصَّلاة مع علمهم أنَّ حاجتَهم لا تنقضِي في أربعةِ أيَّام ولا أكثر؛ كما أقام النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه بعد فتْحِ مكَّة قريبًا من عشْرين يومًا يقصرون الصلاة، وأقاموا بمكَّة عشَرَة أيَّام يُفْطِرون في رمضان، وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا فتح مكَّة يعلم أنَّه يَحتاجُ أن يُقيم بِها أكثرَ من أربعة أيَّام، وإذا كان التَّحديد لا أصْلَ له، فما دام المسافِرُ مسافرًا يقصر الصَّلاة، ولو أقام في مكانٍ شهورًا".

وقال: "فالنَّاس رجُلان: مقيم ومسافر؛ ولهذا كانتْ أحكام النَّاس في الكتاب والسُّنَّة أحد هذيْن الحكميْن: إمَّا حكم مقيم، وإمَّا حكم مسافر؛ وقد قال تعالى: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80]، فجعل للنَّاس يوم ظعنٍ ويوم إقامةٍ؛ قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "إنَّ الله وضَع عن المسافِر الصَّوم وشطْر الصلاة"، فمَن لَم يوضع عنْه الصَّوم وشطْر الصَّلاة، فهو المقيم، وقد أقام النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم في حجَّته بمكَّة أربعة أيَّام، ثُمَّ ستَّة أيَّام بمنى ومزدلفة وعرفة، يقصُر الصَّلاة هو وأصحابُه، فدلَّ على أنَّهم كانوا مُسافِرِينَ، وأقام في غزْوة الفتْح تِسعةَ عشرَ يومًا يقصر الصَّلاة، وأقام بتبوك عِشْرين يومًا يقصُر الصلاة، ومعلومٌ بالعادةِ أنَّ ما كان يَفْعَل بِمكَّة وتبوك لم يكن ينقضِي في ثلاثة أيَّام ولا أربعة؛ حتَّى يقال: إنَّه كان يقول: اليومَ أسافرُ، غدًا أسافر، بلْ فتَح مكَّة وأهلُها وما حولَها كفَّار مُحارِبون له، وهي أعظمُ مدينةٍ فتَحَها، وبفتْحِها ذلَّتِ الأعداء وأسلمتِ العَرَب، وسرى السرايا إلى النَّواحي ينتظر قدومهم، ومثل هذه الأمور ممَّا يعلم أنَّها لا تنقضِي في أربعةِ أيَّام، فعُلِم أنَّه أقام لأمورٍ يَعْلَم أنَّها لا تنقضي في أربعة، وكذلك في تبوك، وأيضًا فمَن جعل للمقام حدًّا من الأيَّام: إمَّا ثلاثةٍ، وإمَّا أربعةٍ، وإمَّا عشَرةٍ، وإمَّا اثنَيْ عشرَ، وإمَّا خمسةَ عشرَ، فإنَّه قال قولاً لا دَليلَ عليْه من جهة الشَّرع، وهي تقديرات مُتقابِلة، فقد تضمَّنت هذه الأقوال تقسيمَ النَّاس إلى ثلاثةِ أقسام: إلى مسافِر، وإلى مقيمٍ مستوطِن، والثالث: مقيم غير مستوطن أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام؛ وهذا التقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع.

لكن من أينَ لَهم أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لو قدِم صبح ثالثةٍ وثانيةٍ كان يتمُّ، ويأمر أصحابَه بالإتمام؟! ليس في قوْلِه وعمله ما يدلُّ على ذلك.

ثم قال: ولو كان هذا حدًّا فاصلاً بين المُقيم والمُسافر، لبيَّنه للمُسلمين؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، والتَّمييزُ بين المقيم والمسافِر بنيَّة أيَّام معدودة يُقيمها ليس هو أمرًا معلومًا، لا بشرعٍ ولا لغةٍ ولا عُرْف، وقد رخَّص النبي صلَّى الله عليْه وسلَّم للمُهاجر أن يُقيم بمكَّة بعد قضاء نُسُكِه ثلاثًا، والقصر في هذا جائزٌ عند الجماعة، وقد سمَّاه إقامةً ورخَّص للمُهاجر أن يُقيمها، فلو أراد المهاجِر أن يقيم أكثر من ذلك بعد قضاء النُّسُك، لم يكن له ذلك، وليس في هذا ما يدلُّ على أنَّ هذه المدَّة فرق بين المسافر والمقيم، بل المهاجِرُ مَمنوعٌ أن يُقيمَ بمكَّة أكثر من ثلاث بعد قضاء المناسك.

وأجاب على حجة الجمهور القائلين: "أن من قدم المِصْر، فقدْ خرج عن حدِّ السَّفر" بقوله: "وهو مَمنوع، بل هو مُخالفٌ للنَّصِّ والإجْماع والعُرف؛ فإنَّ التَّاجر الذي يَقْدِم ليشتريَ سلْعة أو يبيعها ويذهب - هو مسافرٌ عند النَّاس، وقد يشتري السلعة ويبيعها في عدَّة أيَّام، ولا يحدُّ النَّاس في ذلك حدًّا". اهـ، مُختصرًا.

وهذا القولُ هو ما رجَّحه الشَّيخ العثيمين في الفتوى المنشورة في الموقع بعنوان: "مدة قصر الصلاة" وعليه؛ فيجوزُ للمسافر الذي ينوي الإقامة ثلاثةَ أيَّام أو عشَرة أيَّام؛ أن يقصُر تلك المدَّة،، والله أعلم.