موقفُ العوامِّ من الأحاديثِ الباطلةِ المشهورةِ

حسام الدين عفانه

  • التصنيفات: الحديث وعلومه -
السؤال:

 إمامُ مسجدٍ يُواجه رفضاً من المصلين عند بيان بعض الأحاديث الباطلة في دروسه وفي خطب الجمعة، بحجة أن هذه الأحاديث مشهورة، وسمعوها من بعض المشايخ على الفضائيات، فما قولكم في ذلك؟ 

الإجابة:

أولاً: إن عامة الناس وبعض المثقفين والصحفيين وأشباه المتعلمين بين إفراطٍ وتفريطٍ في التعامل مع الأحاديث النبوية، فتجد منهم من يردُّ الأحاديثَ الصحيحة الثابتة، كأحاديث وردت في صحيحي البخاري ومسلم بحججٍ هي أوهى من بيت العنكبوت، وفي الطرف الثاني تجدُّ من يتمسك بالروايات الباطلة والمكذوبة لمجرد سماعها من شيخ مشهور أو وجودها في بعض الكتب ككتب السيرة مثلاً، وكلا الطرفين أخطأوا السبيل الصحيح، وهذه المواقف ناتجةٌ عن جهلٍ واضحٍ بالسنة النبوية وعلومها.

 

ويجب أن يُعلم أن العلوم في جميع أنواعها تحتاج إلى تخصصٍ لمن يريد أن يتكلم فيها، فإننا نعيش في عصر التخصص في العلوم المختلفة، بل في العلم الواحد تجدُ عدة تخصصات، كما هو الحال في علم الطب بتخصصاته المتعددة، فلا يُقبل من أيٍ كان أن يقتحم ما ليس من تخصصه، فيخبط خبط عشواءٍ، والكلام في الأحاديث النبوية وبيان درجتها من حيث الصحة أو الضعف يحتاج إلى تخصصٍ فيها.

قال الشيخ ابن حزم الظاهري: "لا آفةَ على العلوم وأهلها أضرُّ من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويُفسدون ويُقدِّرون أنهم يصلحون" (الأخلاق والسير 1/23).

وقال الحافظ ابن حجر: "إذا تكلم المرءُ في غير فنَّهِ، أتى بهذه العجائب" (فتح الباري 3/738).

وقال الشاعر: خلقَ اللهُ للحروب رجالاً *** ورجالاً لقصعةٍ وثريدٍ.

وقال الشيخ الدكتور بكر أبو زيد: "فهؤلاء المنازلون في ساحة العلم وليس لهم من عدَّةٍ سوى القلم والدواة هم الصَّحفيةُ المتعالمون، من كلِّ من يدَّعي العلم وليس بعالم، شخصيةٌ مؤذيةٌ، تتابعت الشكوى منهم على مدى العصور، وتوالي النُّذُر سلفاً وخلفاً…إنهم زيادة على أنصباء أهل العلم كواو عمروٍ، ونون الإلحاق…فهذا القطيع حقاً هم غُولُ العلم، بل دُودةٌ لزجةٌ، متلبدة أسرابُها في سماء العلم، قاصرةً عن سمو أهله، وامتداد ظلّه، معثرةً دواليبَ حركته، حتى ينطوي الحقُ، ويمتدَّ ظلُ الباطل وضلاله، فما هو إلا فجرٌ كاذبٌ، وسهمٌ كابٍ حسيرٍ" (التعالم 8-9).

ومن المعلوم أن علوم السنة كعلم مصطلح الحديث وعلم الرجال وغيرهما لا يتكلم فيها إلا أهل التخصص.

 

ثانياً: كتبُ السنة النبوية كثيرةٌ، وقد تعددت مناهجُ مؤلفيها، فمنهم من اشترط الصحةَ فيما يرويه، ولا يروي إلا حديثاً صحيحاً عنده، كما فعل الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما، وكما فعل ابن خزيمة وابن حبان أيضاً. 

ومن المحدثين من لم يشترط الصحة في كتابه، فروى الحديث الصحيح والحسن والضعيف، كما فعل أصحابُ السنن الأربعة، أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، وأصحاب المسانيد ، كمسند أحمد بن حنبل، والمعاجم كمعاجم الطبراني الثلاثة، والمستخرجات، كمستخرج الإسماعيلي، والمستدركات، كمستدرك الحاكم، وغيرها من كتب السنة النبوية، فهذه الكتب تجدُ فيها الحديث الصحيح والحسن والضعيف، وأحيانا الحديث الموضوع – المكذوب-.

 

ومن المعروف أن الإمام البخاري لم يلتزم الصحة في كتبه الأخرى مثل كتاب الأدب المفرد، وكتاب التاريخ وكتاب خلق أفعال العباد، فهذه الكتب فيها الحديث الصحيح والحديث الضعيف أيضاً.

 

ومن المعلوم أيضاً أن علماء السنة هؤلاء كانوا يروون الأحاديث بأسانيدها، وهذا يرفعُ الحرجَ عنهم، لأن من أسند فقد أحال وبرئت ذمته، قال العلامة الألباني: "إن القاعدة عند علماء الحديث أن المحدث إذا ساق الحديث بسنده، فقد برئت عهدتهُ منه، ولا مسؤوليةَ عليه في روايته، ما دام قد قرنَ معه الوسيلة التي تُمكِّن العالم من معرفة ما إذا كان الحديث صحيحاً أو غير صحيحٍ، ألا وهي الإسناد." (هامش كتاب “اقتضاء العلم العمل” ص 4).

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "…كما يوجد ذلك في مصنفات الفقهاء فإن فيها من الأحاديث والآثار ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما هو موضوع، فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الآثار المنقولة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع.

وهذا أمرٌ متفقٌ عليه بين جميع المسلمين، لا يتنازعون في أن هذه الكتب فيها هذا، وفيها هذا، بل نفس الكتب المصنفة في الحديث والآثار فيها هذا وهذا، وكذلك الكتب المصنفة في التفسير فيها هذه وهذا، مع أن أهل الحديث أقربُ إلى معرفة المنقولات، وفي كتبهم هذا وهذا، فكيف غيرهم؟

والمصنفون قد يكونون أئمةً في الفقه أو التصوف أو الحديث، ويروون هذا تارةً، لأنهم لم يعلموا أنه كذبٌ، وهو الغالب على أهل الدِّين، فإنهم لا يحتجون بما يعلمون أنه كذب، وتارةً يذكرونه وإن علموا أنه كذبٌ، اذ قصدُهم رواية ما روي في ذلك الباب…" (كتاب الاستقامة 2/67-69).

 

ثالثاً: من المعلوم أن أهل الحديث قد اصطلحوا على أن رواية الحديث قد تكون بصيغة الجزم، وقد تكون بصيغة التمريض، والمقصود بصيغ الجزم، قول الراوي قبل ذكر متن الحديث: قال أو روى أو حَكى أو ذَكَر ونحو ذلك.

والمقصود بصيغ التمريض، قول الراوي قبل ذكر متن الحديث: قيل أو يُروى أو يُحكى أو يُذكر ونحو ذلك.

فما كان بصيغة الجزم فهو صحيح، وما كان بصيغة التمريض فهو ضعيف،

وقرر المحدثون أن الحديث الصحيح لا يُروى بصيغة التمريض، فلا يُقال فيه: قيل أو يُروى أو يُحكى أو يُذكر ونحو ذلك ، وأن الحديث الضعيف لا يُروى بصيغة الجزم، فلا يُقال فيه: قال أو روى أو حَكى أو ذَكَر ونحو ذلك.

 

قال الإمام النووي: "قال العلماء المحققون من أهل الحديث وغيرهم: إذا كان الحديث ضعيفاً لا يُقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعل أو أمر أو نهى أو حكم وما أشبه ذلك من صيغ الجزم، وكذا لا يُقال فيه: روى أبو هريرة أو قال أو ذكره أو أخبر أو حدَّث أو نقل أو أفتى وما أشبهه، وكذا لا يُقال ذلك في التابعين ومن بعدهم فيما كان ضعيفاً، فلا يُقال في شيءٍ من ذلك بصيغة الجزم، وإنما يُقال في هذا كله: رُوي عنه أو نُقل عنه أو حُكي عنه أو بلغنا عنه أو يُقال أو يُذكر أو يُحكى أو يُروى أو يُرفع أو يُعزى وما أشبه ذلك من صيغ التمريض، وليست من صيغ الجزم. قالوا: فصيغُ الجزم موضوعةٌ للصحيح أو الحسن. وصيغُ التمريض لما سواهما، وذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته عن المضاف إليه، فلا ينبغي أن يُطلق إلا فيما صحَّ، وإلا فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم.

 

وهذا الأدبُ أخلَّ به المصنفُ – أبو إسحاق الشيرازي صاحب المهذب – وجماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، بل جماهير أصحاب العلوم مطلقاً ما عدا حُذَّاق المحدثين. وذلك تساهلٌ قبيحٌ، فإنهم يقولون كثيراً في (الصحيح): رُوي عنه، وفي (الضعيف): قال وروى فلان، وهذا حَيدٌ عن الصواب" (المجموع شرح المهذب 1/63).

وقال السيوطي: "وإذا أردت رواية الضعيف بغير إسنادٍ، فلا تقل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وما أشبهه من الجزم، بل قل: رُوي كذا أو بلغنا كذا أو ورد أو جاء أو نُقل وما أشبهه" (تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 1/297).

وقال علامة الشام القاسمي: "من أراد رواية ضعيفٍ بغير إسناد فلا يقل: قال رسول الله، بل يقول: روي عنه كذا أو بلغنا عنه كذا أو ورد عنه أو جاء عنه أو نُقل عنه، وما أشبه ذلك من صيغ التمريض…وكذا يقول في ما يشكُ في صحته" قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث 1/77.

 

رابعاً: إذا تقرر ما سبق فأذكر أمثلةً من الأحاديث الباطلة أو الواهية المشتهرة، وإذا سمع العوام مَنْ يُنكرها ويُبين ضعفها هاجوا وماجوا، فالناسُ أعداءٌ لما جهلوا:

(1) ما روي في حادثة الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه لما دخلا غار ثور، جاءت العنكبوت فنسجت على باب الغار…) فهذه الرواية مع شهرتها ليست ثابتةً، وضعَّفها كثيرٌ من المحدثين، قال العلامة الألباني: "واعلم أنه لا يصح حديثٌ في العنكبوت والحمامتين على كثرة ما يُذكر ذلك في بعض الكتب والمحاضرات التي تُلقى بمناسبة هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكن من ذلك على علم." (السلسلة الضعيفة 3/339).

(2) ما روي أنه (لما قدم النبيُ صلى الله عليه وسلم المدينةَ في حادثة الهجرة استقبله الناس وجعل النساء والصبيان والولائد ينشدون: طلع البدرُ علينا من ثنيات الوداع وجب الشكرُ علينا ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع) فهذه الرواية ليست ثابتةً، واعتبرها كثيرٌ من المحدثين من القصص الموضوع أي المكذوب، كما في(تذكرة الموضوعات) للفتني ، وفي(أحاديث القصاص) لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما.

(3) ما روي في الحديث: (اطلبوا العلم ولو بالصين) فهذا حديثٌ موضوعٌ ذكره ابن الجوزي في (الموضوعات) والشوكاني في (الفوائد المجموعة).

(4) ما روي في الحديث: (شاوروهن وخالفوهن) فهذا حديثٌ غير ثابتٍ ولا أصل له، ذكره ملا علي القاري في (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) والفتني في (تذكرة الموضوعات). 

(5) ما روي في الحديث: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل). فهذا حديثٌ موضوعٌ ذكره العلامة الألباني في (السلسلة الضعيفة). وغير ذلك من الأمثلة فهي كثيرة جداً.

 

وخلاصة الأمر أن عامة الناس وبعض المثقفين والصحفيين وأشباه المتعلمين بين إفراطٍ وتفريطٍ في التعامل مع الأحاديث النبوية، فمنهم من يردُّ الأحاديثَ الصحيحة الثابتة، ومنهم منْ يتمسك بالروايات الباطلة والمكذوبة.

وأن المطلوب إسنادُ الأمر في الحكم على الأحاديث إلى أهل التخصص.

وأن كتبَ السنة النبوية كثيرةٌ، وقد تعددت مناهجُ مؤلفيها، فمنهم من اشترط الصحةَ فيما يرويه، ومنهم من لم يشترط ذلك.

وأن أن أهل الحديث قد اصطلحوا على أن رواية الحديث قد تكون بصيغة الجزم، وقد تكون بصيغة التمريض ولا بد من التمييز بينهما.

وأن هنالك أحاديث باطلة أو واهية مشتهرة، وإذا سمع العوام مَنْ يُنكرها ويُبين ضعفها هاجوا وماجوا، فالناسُ أعداءٌ لما جهلوا، وواجبُ عامة الناس كما قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأنبياء الآية 7].