الإيمان هو أصل السعادة وهو قول القلب وعمله
ابن تيمية
- التصنيفات: فتاوى وأحكام -
الإجابة: ولما كان ـ في نفس الأمر ـ وجود محبوب مألوه، كان أصل السعادة الإيمان
بذلك، وأصل الإيمان قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو
المحبة على سبيل الخضوع، إذ لا ملاءمة لأرواح العباد، أتم من ملاءمة
إلهها الذي هو الله الذي لا إله إلا هو.
ولما كان الإيمان جامعًا لهذين المعنيين، وكان تعبير من عبر عنه بمجرد التصديق ناقصا، قاصرًا، انقسم الأمة إلى ثلاث فرق:
فالجامعون، حققوا كلا معنييه، من القول التصديقي، والعمل الإرادي.
وفريقان فقدوا أحد المعنيين:
فالكلاميون، غالب نظرهم وقولهم في الثبوت، والانتفاء والوجود والعدم والقضايا التصديقية، فغايتهم مجرد التصديق والعلم والخبر.
والصوفيون، غالب طلبهم وعملهم في المحبة، والبغضة، والإرادة، والكراهة، والحركات العملية، فغايتهم المحبة والانقياد والعمل والإرادة.
وأما أهل العلم والإيمان، فجامعون بين الأمرين، بين التصديق العلمي، والعمل الحبي. ثم إن تصديقهم عن علم، وعملهم وحبهم عن علم، فسلموا من أفتى منحرفة المتكلمة والمتصوفة، وحصلوا ما فات كل واحدة منهما من النقص، فإن كلا من المنحرفين له مفسدتان:
إحداهما: القول بلا علم ـ إن كان متكلما ـ والعمل بلا علم ـ إن كان متصوفا ـ وهو ما وقع من البدع الكلامية والعملية، المخالفة للكتاب والسنة.
والثاني: فوَّت المتكلم العمل، وفوَّتَ المتصوف القول والكلام. وأهل السنة الباطنة والظاهرة كان كلامهم وعملهم باطنا وظاهرًا بعلم، وكان كل واحد من قولهم وعملهم مقرونا بالآخر. وهؤلاء هم المسلمون حقًا، الباقون على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
فإن منحرفة أهل الكلام فيهم شبه اليهود، ومنحرفة أهل التصوف فيهم شبه النصارى؛ ولهذا غلب على الأولىن جانب الحروف وما يدل عليه من العلم والاعتقاد، وعلى الأخرىن جانب الأصوات، وما يثيره من الوجد والحركة.
ومن تمام ذلك أن الله أمر نبيه أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن.
وهذه الطرق الثلاثة هي النافعة في العلم والعمل، وتشبه ما يذكره أهل المنطق من البرهان والخطابة والجدل. بقي الشعر والسفسطة ـ التي هي الكذب المموه ـ فنفي الله ذلك بقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}إلى آخر السورة [الشعراء:221: 224]، فذكر الأفاكين، وهم المسفسطون، وذكر الشعراء.
وكذلك أبو بكر الصديق قال لعمر بن الخطاب لما قال له: يا خليفة رسول الله، تألَّف الناس، فأخذ بلحيته وقال: يابن الخطاب، أجبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام، علام أتألفهم؟ أعلى حديث مفترى، أم على شعر مفتعل؟ فذكرالحديث المفترى، والشعر المفتعل، كما ذكر الله الأفاكين والشعراء، وكان الإفك في القوة الخبرية. والشعر في القوة العملية الطلبية، فتلك ضلال وهذه غواية.
ولهذا يقترن أحدهما بالآخر كثيرًا في مثل المليين من الرهبان، وفاسدي الفقراء وغيرهم، ثم لما كان الشعر مستفادًا من الشعور ـ فهو يفيد إشعار النفس بما يحركها، وإن لم يكن صدقًا، بل يورث محبة، أو نفرة أو رغبة أو رهبة، لما فيه من التخييل، وهذا خاصة الشعر ـ فلذلك وصفهم بأنهم يتبعهم الغوون.
والغيُّ: اتباع الشهوات؛ لأنه يحرك الناس حركة الشهوة، والنفرة والفرح، والحزن بلا علم، وهذا هو الغي، بخلاف الإفك، فإن فيه إضلالا في العلم بحيث يوجب اعتقاد الشيء، على خلاف ما هو به. وإذا كانت النفس تتحرك تارة عن تصديق وإيمان، وتارة عن شعر. والثاني مذموم إلا ما استثنى منه، قال تعالى: {1مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ}[يس:69]، فالذكر خلاف الشعر، فإنه حق وعلم، يذكره القلب، وذاك شعر يحرك النفس فقط.
ولهذا غلب على منحرفة المتصوفة، الاعتياض بسماع القصائد والأشعار، عن سماع القرآن والذكر؛ فإنه يعطيهم مجرد حركة حب أو غيره، من غير أن يكون ذلك تابعًا لعلم وتصديق؛ ولهذا يؤثره من يؤثره على سماع القرآن، ويعتل بأن القرآن حق نزل من حق، والنفوس تحب الباطل؛ وذلك لأن القول الصدق والحق يعطي علمًا واعتقادًا بجملة القلب، والنفوس المبطلة لا تحب الحق.
ولهذا أثره باطل، يتفشى من النفس، فإنه فرع لا أصل له، ولكن له تأثير في النفس من جهة التحريك، والإزعاج والتأثير، لا من جهة التصديق والعلم والمعرفة؛ ولهذا يسمون القول حاديًا؛ لأنه يحدو النفوس، أي يبعثها، ويسوقها كما يحدو حادي العيس.
وأما الحكمة والموعظة الحسنة، والجدل الأحسن، فإنه يعطي التصديق والعمل، فهو نافع منفعة عظيمة.
وإنما قلت: إن هذه الثلاثة تشبه من بعض الوجوه الأقيسة الثلاثة، التي هي: البرهانية، والخطابية، والجدلية، وليست هي، بل أكمل من وجوه كثيرة لوجوه:
أحدها: أن التي في القرآن تجمع نوعي العلم، والعمل، والخبر والطلب على أكمل الوجوه، بخلاف الأقيسة المنطقية.
وذلك أن القياس العقلي المنطقي إنما فائدته مجرد التصديق في القضايا الخبرية، سواء تبع ذلك عمل أو لم يتبعه، فإن كانت مواد القياس يقينية كان برهانًا، سواء كانت مشهورة، أو مسلمة، أو لم تكن، وهو يفيد اليقين، وإن كانت مشهورة، أو مقبولة سمي خطابة، سواء كانت يقينية أو لم تكن، وذلك يفيد الاعتقاد والتصديق الذي هو بين اليقين والظن، ليس أنه يفيد الظن دون اليقين، إذ ليس في كونها مشهورة ما يمنع أن تكون يقينية مفيدة لليقين.
وفرق بين مالا يجب أن يفيد اليقين، وما يمنع إفادة اليقين. فالمشهورة ـ من حيث هي مشهورة ـ تفيد التصديق، والإقناع، والاعتقاد. ثم إن عرف أنها يقينية أفادت اليقين أيضا، وإن عرف أنها غير يقينية لم تفد إلا الظن، وإن لم تشعر النفس بواحد منهما بقي اعتقادًا مجردًا، لا يثبت له اليقين، ولا ينفي عنه.
وأما الحكمة في القرآن، فهي معرفة الحق وقوله والعمل به، كما كتبت تفسيرها في غير هذا الموضع.
والموعظة الحسنة تجمع التصديق بالخبر والطاعة للأمر؛ ولهذا يجيء الوعظ في القرآن مرادًا به الأمر والنهي بترغيب وترهيب، كقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء:66]، وقوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} [النور:17]، وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً َ} [البقرة:66]، أي: يتعظون بها فينتبهون، وينزجرون.
وكذلك الجدل الأحسن، يجمع الجدل للتصديق، وللطاعة.
الوجه الثاني: ويمكن أن يقسم هذا إلى وجه آخر ـ بأن يقال: الناس ثلاثة أقسام: إما أن يعترف بالحق ويتبعه، فهذا صاحب الحكمة، وإما أن يعترف به، لكن لا يعمل به، فهذا يوعظ حتى يعمل، وإما ألا يعترف به، فهذا يجادل بالتي هي أحسن؛ لأن الجدال في مظنة الإغضاب، فإذا كان بالتي هي أحسن: حصلت منفعته بغاية الإمكان، كدفع الصائل.
الوجه الثالث: أن كلام الله لا يشتمل إلا على حق يقين، لا يشتمل على ما تمتاز به الخطابة والجدل عن البرهان، بكون المقدمة مشهورة، أو مسلمة غير يقينية، بل إذا ضرب الله مثلا مشتملا على مقدمة مشهورة، أو مسلمة، فلابد وأن تكون يقينية. فأما الاكتفاء بمجرد تسليم المنازع من غير أن تكون المقدمة صادقة، أو بمجرد كونها مشهورة، وإن لم تكن صادقة، فمثل هذه المقدمة لا يشتمل عليها كلام الله، الذي كله حق وصدق، وهو أصدق الكلام، وأحسن الحديث.
فصاحب الحكمة يدعى بالمقدمات الصادقة، سواء كانت مشهورة أو مسلمة أو لم تكن؛ لما فيه من أدرك الدق، واتباع الحق.
وصاحب الموعظة يدعي من المقدمات الصادقة بالمشهورة؛ لأنه قد لا يفهم الخفية من الحق، ولا ينازع في المشهورة.
وصاحب الجدل يدعى بما يسلمه من المقدمات الصادقة، مشهورة كانت أو لم تكن؛ إذ قد لا ينقاد إلى ما لا يسلمه، سواء كان جليًا أو خفيًا، وينقاد لما يسلمه، سواء كان جليًا أو خفيًا، فهذا هذا.
وليس الأمر كما يتوهمه الجهال الضلال من الكفار المتفلسفة، وبعض المتكلمة، من كون القرآن جاء بالطريقة الخطابية، وعري عن البرهانية، أو اشتمل على قليل منها بل جميع ما اشتمل عليه القرآن هو الطريقة البرهانية، وتكون تارة خطابية، وتارة جدلية مع كونها برهانية.
والأقيسة العقلية ـ التي اشتمل عليها القرآن ـ هي الغاية في دعوة الخلق إلى الله، كما قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء:89]، في أول سبحان وآخرها، وسورة الكهف، والمثل هو القياس؛ ولهذا اشتمل القرآن على خلاصة الطرق الصحيحة، التي توجد في كلام جميع العقلاء من المتكلمة، والمتفلسفة، وغيرهم. ونزه الله عما يوجد في كلامهم من الطرق الفاسدة، ويوجد فيه من الطرق الصحيحة ما لا يوجد في كلام البشر بحال.
الوجه الرابع: أن هنا نكتة ينبغي التفطن لها، فإنها نافعة، وذلك أن المقدمة المذكورة في القياس الذي هو مثل لها وصف ذاتي، ووصف إضافي:
فالوصف الذاتي لها: أن تكون مطابقة، فتكون صدقا، أو لا تكون مطابقة فتكون كذبا، وجميع المقدمات المذكورة في أمثال القرآن هي صدق، والحمد لله رب العالمين.
وأما الوصف الإضافي: فكونها معلومة عند زيد، أو مظنونة، أو مسلمة أو غير مسلمة، فهذا أمر لا ينضبط. فرب مقدمة هي يقينية عند شخص قد علمها وهي مجهولة، فضلا عن أن تكون مظنونة عند من لم يعلمها، فكون المقدمة يقينية، أو غير يقينية، أو مشهورة، أو غير مشهورة، أو مسلمة أو غير مسلمة أمور نسبية وإضافية لها، تعرض بحسب شعور الإنسان بها.
ولهذا تنقلب المظنونة، بل المجهولة في حقه يقينية معلومة، والممنوعة مسلمة، بل والمسلمة ممنوعة. والقرآن كلام الله الذي أنذر به جميع الخلق، لم يخاطب به واحدًا بعينه حتى يخاطب بما هو عنده يقيني من المقدمات، أو مشهور، أو مسلم.
فمقدمات الأمثال فيه اعتبر فيها الصفة الذاتية وهي كونها صدقا، وحقايجب قبوله، وأما جهة التصديق فتتعدد وتتنوع؛ إذ قد يكون لهذا من طرق التصديق بتلك المقدمة ما ليس لعمرو، مثل أن يكون هذا يعلمها بالإحساس والروية، وهذا يعلمها بالسماع والتواتر كآيات الرسول وقصة أهل الفيل، وغير ذلك.
فما كان جهة تصديقه عاما للناس، أمكن ذكره جهة التصديق به، كآيات الربوبية المعلومة بالإحساس دائمًا، وما كان جهة تصديقه متنوعًا، أحيل كل قوم على الطريق التي يصدقون بها.
وقد يقال في مثل هذا: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فإن مخاطبة المعين قد يعلم بها ما هو عنده يقيني أو مشهور من اليقين، أو مسلم منه.
وبهذا يتبين لك أن تقسيم المنطقيين لمقدمات القياس إلى المستيقن والمشهور والمسلم، ليس ذلك وصفا لازما للقضية، بل هو بحسب ما اتفق للمصدق بها، وربما انقلب الأمر عنده، ويظهر لك من هذا أن ما يشهدون عليه أنه ليس بيقيني، أو ليس مشهورًا، وليس بمسلم، ليست الشهادة صحيحة؛ إذ سلب ذلك إنما يصح في حق قوم معينين، لا في حق جميع البشر.
وكذلك الشهادة عليه بأنه يقيني، أو مشهور، أو مسلم، إنما هو في حق من ثبت له هذا الوصف.
وأيضا، القياس حق ثابت لا يتبدل، وما يقوله هؤلاء يتغير ويتبدل ولا يستمر، اللهم إلا في الأمور التي قضت سنة الله باشتراك الناس فيها، من الحسابيات، والطبيعيات.
وهذان الفنان ليسا مقصود الدعوة النبوية، ولا معرفتهما شرطًا في السعادة، ولا محصلًا لها، وإنما المقصود الفن الإلهي. ومقدمات القياس فيه هي من القسم الأول، الذي تختلف فيه أحكام المقدمات، بالنسب، والإضافة. فتدبر هذا فإنه خالص نافع عظيم القدر.
يوضح هذا الفصل أن القرآن ـ وإن كان كلام الله ـ فإن الله أضافه إلى الرسول، المبلغ له من الملك، والبشر، فأضافه إلى الملك في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} إلى قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 12: 21]، فهذا جبرائيل. فإن هذه صفاته، لا صفات محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال:{وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]، أضافه إلينا، امتنانا علىنا بأنه صاحبنا، كما قال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[النجم:1، 2]. {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 23، 24] فهو محمد، أي: بمتهم، وعلى القراءة الأخرى: ببخيل. وزعم بعض المتفلسفة أنه جبرائيل أيضا، وهو العقل الفاعل الفائض، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه، فإن صفات جبرائيل تقدمت، وإنما هذا وصف محمد، ثم قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25] لما أثبت أنه قول الملك، نفي أن يكون قول الشيطان. كما قال في الشعراء: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} إلى قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} إلى قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون} [الشعراء: 221: 223]. وأضافه إلى الرسول البشري في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 38: 43] فنفي عنه أن يكون قول شاعر، أو كاهن، وهما من البشر. كما ذكر في آخرالشعراء: أن الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم؛ كالكهنة، الذين يلقون إليهم السمع، وأن الشعراء يتبعهم الغاوون.
فهذان الصنفان اللذان قد يشتبهان بالرسول من البشر، لما نفاهما علم أن الرسول الكريم هو المصطفي من البشر، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا، ومن الناس، كما أنه في سورة التكوير لما كان الشيطان قد يشبه بالملك ـ فنفي أن يكون قول شيطان رجيم ـ علم أن الرسول المذكور هو المصطفي من الملائكة.
وفي إضافته إلى هذا الرسول تارة، وإلى هذا تارة، دليل على أنه إضافة بلاغ وأداء، لا إضافة إحداث لشيء منه أو إنشاء، كما يقوله بعض المبتدعة الأشعرية، من أن حروفه ابتداء جبرائيل، أو محمد، مضاهاة منهم في نصف قولهم لمن قال: إنه قول البشر، من مشركي العرب، ممن يزعم أنه أنشأه بفضله، وقوة نفسه، ومن المتفلسفة الذين يزعمون أن المعاني والحروف تأليفه، لكنها فاضت عليه، كما يفيض العلم على غيره من العلماء.
فالكاهن مستمد من الشياطين {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}[الشعراء:224] وكلاهما في لفظه وزن. هذا سجع وهذا نظم، وكلاهما له معان من وحي الشياطين. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ". وقال: " " وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25]: ينفي الأمرين، كما أنه في السورة الأخرى قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ. وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} [الحاقة: 41، 42] وكذلك قال في الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:210] مطلقا.
ثم ذكر علامة من تنزل عليه الشياطين: بأنه أفاك أثيم، وأن الشعراء يتبعهم الغاوون. فظاهر القرآن ليس فيه أن الشعراء تتنزل عليهم الشياطين، إلا إذا كان أحدهم كذابا أثيما، فالكذاب: في قوله، وخبره. والأثيم: في فعله وأمره.
وذاك ـ والله أعلم ـ لأن الشعر يكون من الشيطان تارة، ويكون من النفس أخرى. كما أنه إذا كان حقًا يكون من روح القدس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما دعا لحسان بن ثابت: " ". وقال: " " فلما نفي قِسمَ الشيطانِ نفي قسم النفس، ولهذا قال: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] والغي اتباع الشهوات، التي هي هوى النفوس.
ولهذا قال أبو حيان ما كان من نفسك فأحبته نفسك لنفسك، فهو من نفسك فانهها عنه، وما كان من نفسك فكرهته نفسك لنفسك، فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه، فهذا والله أعلم ـ لأن الكلام نوعان: خبر، وإنشاء. والكاهن يخبر بالغيوب، مخلطًا فيه الصدق بالكذب، لا يأتون بالحق محضًا، وإذا ألقى الشيطان في أمنية أحدهم شيئا في القلب، لم ينسخ منه بل أكثرهم كاذبون. كما قال تعالى، وكما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الكهان لما قال: " " بخلاف الرسول، والنبي، والمحدَّثِ، كما في قراءة ابن عباس وغيره: (فإن الله ينسخ ما يلقى الشيطان).
والقراءة العامة ليس فيها المحدَّث؛ إذ يجوز أن يقر على بعض الخطأ، ويدخل الشيطان في أمنيته بعض ما يلقيه فلا ينسخ، بخلاف الرسول والنبي، فإنه لابد من نسخ ما يلقي الشيطان، وأن يحكم الله آياته؛ لأنه حق، والمحدَّث مأمور بأن يعرض ما يحدَّثه على ما جاء به الرسول. ولهذا ألقى الشيطان لعمر وهو محدَّث، في قصة الحديبية، وقصة موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة اختلافه وحكيم بن حزام في سورة الفرقان، فأزاله عنه نور النبوة.
وأما الشاعر فشأنه التحريك للنفوس، فهو من باب الأمر الخاص المرغب؛ فلهذا قيل فيهم: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، فضررهم في الأعمال لا في الاعتقادات، وأولئك ضررهم في الاعتقادات ويتبعها الأعمال؛ ولهذا قال:{أَفَّاكٍ أَثِيم} [الجاثية: 7] ومعنى الكهانة والشعر: موجود في كثير من المتفلسفة، والمتصوفة، والمتكلمة، والمتفقهة، والعامة، والمتفقرة، الخارجين عن الشريعة الذين يتكلمون بالغيوب عن كهانة، ويحركون النفوس بالشعر ونحوه وهم من أتباع المتنبئين الكذابين لهم مادة من الشياطين. كما قد رأيناه كثيرًا في أنواع من هذه الطوائف وغيرها، لمن نور الله صدره، وقف في قلبه من نوره.
ولما كان الإيمان جامعًا لهذين المعنيين، وكان تعبير من عبر عنه بمجرد التصديق ناقصا، قاصرًا، انقسم الأمة إلى ثلاث فرق:
فالجامعون، حققوا كلا معنييه، من القول التصديقي، والعمل الإرادي.
وفريقان فقدوا أحد المعنيين:
فالكلاميون، غالب نظرهم وقولهم في الثبوت، والانتفاء والوجود والعدم والقضايا التصديقية، فغايتهم مجرد التصديق والعلم والخبر.
والصوفيون، غالب طلبهم وعملهم في المحبة، والبغضة، والإرادة، والكراهة، والحركات العملية، فغايتهم المحبة والانقياد والعمل والإرادة.
وأما أهل العلم والإيمان، فجامعون بين الأمرين، بين التصديق العلمي، والعمل الحبي. ثم إن تصديقهم عن علم، وعملهم وحبهم عن علم، فسلموا من أفتى منحرفة المتكلمة والمتصوفة، وحصلوا ما فات كل واحدة منهما من النقص، فإن كلا من المنحرفين له مفسدتان:
إحداهما: القول بلا علم ـ إن كان متكلما ـ والعمل بلا علم ـ إن كان متصوفا ـ وهو ما وقع من البدع الكلامية والعملية، المخالفة للكتاب والسنة.
والثاني: فوَّت المتكلم العمل، وفوَّتَ المتصوف القول والكلام. وأهل السنة الباطنة والظاهرة كان كلامهم وعملهم باطنا وظاهرًا بعلم، وكان كل واحد من قولهم وعملهم مقرونا بالآخر. وهؤلاء هم المسلمون حقًا، الباقون على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
فإن منحرفة أهل الكلام فيهم شبه اليهود، ومنحرفة أهل التصوف فيهم شبه النصارى؛ ولهذا غلب على الأولىن جانب الحروف وما يدل عليه من العلم والاعتقاد، وعلى الأخرىن جانب الأصوات، وما يثيره من الوجد والحركة.
ومن تمام ذلك أن الله أمر نبيه أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن.
وهذه الطرق الثلاثة هي النافعة في العلم والعمل، وتشبه ما يذكره أهل المنطق من البرهان والخطابة والجدل. بقي الشعر والسفسطة ـ التي هي الكذب المموه ـ فنفي الله ذلك بقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}إلى آخر السورة [الشعراء:221: 224]، فذكر الأفاكين، وهم المسفسطون، وذكر الشعراء.
وكذلك أبو بكر الصديق قال لعمر بن الخطاب لما قال له: يا خليفة رسول الله، تألَّف الناس، فأخذ بلحيته وقال: يابن الخطاب، أجبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام، علام أتألفهم؟ أعلى حديث مفترى، أم على شعر مفتعل؟ فذكرالحديث المفترى، والشعر المفتعل، كما ذكر الله الأفاكين والشعراء، وكان الإفك في القوة الخبرية. والشعر في القوة العملية الطلبية، فتلك ضلال وهذه غواية.
ولهذا يقترن أحدهما بالآخر كثيرًا في مثل المليين من الرهبان، وفاسدي الفقراء وغيرهم، ثم لما كان الشعر مستفادًا من الشعور ـ فهو يفيد إشعار النفس بما يحركها، وإن لم يكن صدقًا، بل يورث محبة، أو نفرة أو رغبة أو رهبة، لما فيه من التخييل، وهذا خاصة الشعر ـ فلذلك وصفهم بأنهم يتبعهم الغوون.
والغيُّ: اتباع الشهوات؛ لأنه يحرك الناس حركة الشهوة، والنفرة والفرح، والحزن بلا علم، وهذا هو الغي، بخلاف الإفك، فإن فيه إضلالا في العلم بحيث يوجب اعتقاد الشيء، على خلاف ما هو به. وإذا كانت النفس تتحرك تارة عن تصديق وإيمان، وتارة عن شعر. والثاني مذموم إلا ما استثنى منه، قال تعالى: {1مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ}[يس:69]، فالذكر خلاف الشعر، فإنه حق وعلم، يذكره القلب، وذاك شعر يحرك النفس فقط.
ولهذا غلب على منحرفة المتصوفة، الاعتياض بسماع القصائد والأشعار، عن سماع القرآن والذكر؛ فإنه يعطيهم مجرد حركة حب أو غيره، من غير أن يكون ذلك تابعًا لعلم وتصديق؛ ولهذا يؤثره من يؤثره على سماع القرآن، ويعتل بأن القرآن حق نزل من حق، والنفوس تحب الباطل؛ وذلك لأن القول الصدق والحق يعطي علمًا واعتقادًا بجملة القلب، والنفوس المبطلة لا تحب الحق.
ولهذا أثره باطل، يتفشى من النفس، فإنه فرع لا أصل له، ولكن له تأثير في النفس من جهة التحريك، والإزعاج والتأثير، لا من جهة التصديق والعلم والمعرفة؛ ولهذا يسمون القول حاديًا؛ لأنه يحدو النفوس، أي يبعثها، ويسوقها كما يحدو حادي العيس.
وأما الحكمة والموعظة الحسنة، والجدل الأحسن، فإنه يعطي التصديق والعمل، فهو نافع منفعة عظيمة.
وإنما قلت: إن هذه الثلاثة تشبه من بعض الوجوه الأقيسة الثلاثة، التي هي: البرهانية، والخطابية، والجدلية، وليست هي، بل أكمل من وجوه كثيرة لوجوه:
أحدها: أن التي في القرآن تجمع نوعي العلم، والعمل، والخبر والطلب على أكمل الوجوه، بخلاف الأقيسة المنطقية.
وذلك أن القياس العقلي المنطقي إنما فائدته مجرد التصديق في القضايا الخبرية، سواء تبع ذلك عمل أو لم يتبعه، فإن كانت مواد القياس يقينية كان برهانًا، سواء كانت مشهورة، أو مسلمة، أو لم تكن، وهو يفيد اليقين، وإن كانت مشهورة، أو مقبولة سمي خطابة، سواء كانت يقينية أو لم تكن، وذلك يفيد الاعتقاد والتصديق الذي هو بين اليقين والظن، ليس أنه يفيد الظن دون اليقين، إذ ليس في كونها مشهورة ما يمنع أن تكون يقينية مفيدة لليقين.
وفرق بين مالا يجب أن يفيد اليقين، وما يمنع إفادة اليقين. فالمشهورة ـ من حيث هي مشهورة ـ تفيد التصديق، والإقناع، والاعتقاد. ثم إن عرف أنها يقينية أفادت اليقين أيضا، وإن عرف أنها غير يقينية لم تفد إلا الظن، وإن لم تشعر النفس بواحد منهما بقي اعتقادًا مجردًا، لا يثبت له اليقين، ولا ينفي عنه.
وأما الحكمة في القرآن، فهي معرفة الحق وقوله والعمل به، كما كتبت تفسيرها في غير هذا الموضع.
والموعظة الحسنة تجمع التصديق بالخبر والطاعة للأمر؛ ولهذا يجيء الوعظ في القرآن مرادًا به الأمر والنهي بترغيب وترهيب، كقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء:66]، وقوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} [النور:17]، وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً َ} [البقرة:66]، أي: يتعظون بها فينتبهون، وينزجرون.
وكذلك الجدل الأحسن، يجمع الجدل للتصديق، وللطاعة.
الوجه الثاني: ويمكن أن يقسم هذا إلى وجه آخر ـ بأن يقال: الناس ثلاثة أقسام: إما أن يعترف بالحق ويتبعه، فهذا صاحب الحكمة، وإما أن يعترف به، لكن لا يعمل به، فهذا يوعظ حتى يعمل، وإما ألا يعترف به، فهذا يجادل بالتي هي أحسن؛ لأن الجدال في مظنة الإغضاب، فإذا كان بالتي هي أحسن: حصلت منفعته بغاية الإمكان، كدفع الصائل.
الوجه الثالث: أن كلام الله لا يشتمل إلا على حق يقين، لا يشتمل على ما تمتاز به الخطابة والجدل عن البرهان، بكون المقدمة مشهورة، أو مسلمة غير يقينية، بل إذا ضرب الله مثلا مشتملا على مقدمة مشهورة، أو مسلمة، فلابد وأن تكون يقينية. فأما الاكتفاء بمجرد تسليم المنازع من غير أن تكون المقدمة صادقة، أو بمجرد كونها مشهورة، وإن لم تكن صادقة، فمثل هذه المقدمة لا يشتمل عليها كلام الله، الذي كله حق وصدق، وهو أصدق الكلام، وأحسن الحديث.
فصاحب الحكمة يدعى بالمقدمات الصادقة، سواء كانت مشهورة أو مسلمة أو لم تكن؛ لما فيه من أدرك الدق، واتباع الحق.
وصاحب الموعظة يدعي من المقدمات الصادقة بالمشهورة؛ لأنه قد لا يفهم الخفية من الحق، ولا ينازع في المشهورة.
وصاحب الجدل يدعى بما يسلمه من المقدمات الصادقة، مشهورة كانت أو لم تكن؛ إذ قد لا ينقاد إلى ما لا يسلمه، سواء كان جليًا أو خفيًا، وينقاد لما يسلمه، سواء كان جليًا أو خفيًا، فهذا هذا.
وليس الأمر كما يتوهمه الجهال الضلال من الكفار المتفلسفة، وبعض المتكلمة، من كون القرآن جاء بالطريقة الخطابية، وعري عن البرهانية، أو اشتمل على قليل منها بل جميع ما اشتمل عليه القرآن هو الطريقة البرهانية، وتكون تارة خطابية، وتارة جدلية مع كونها برهانية.
والأقيسة العقلية ـ التي اشتمل عليها القرآن ـ هي الغاية في دعوة الخلق إلى الله، كما قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء:89]، في أول سبحان وآخرها، وسورة الكهف، والمثل هو القياس؛ ولهذا اشتمل القرآن على خلاصة الطرق الصحيحة، التي توجد في كلام جميع العقلاء من المتكلمة، والمتفلسفة، وغيرهم. ونزه الله عما يوجد في كلامهم من الطرق الفاسدة، ويوجد فيه من الطرق الصحيحة ما لا يوجد في كلام البشر بحال.
الوجه الرابع: أن هنا نكتة ينبغي التفطن لها، فإنها نافعة، وذلك أن المقدمة المذكورة في القياس الذي هو مثل لها وصف ذاتي، ووصف إضافي:
فالوصف الذاتي لها: أن تكون مطابقة، فتكون صدقا، أو لا تكون مطابقة فتكون كذبا، وجميع المقدمات المذكورة في أمثال القرآن هي صدق، والحمد لله رب العالمين.
وأما الوصف الإضافي: فكونها معلومة عند زيد، أو مظنونة، أو مسلمة أو غير مسلمة، فهذا أمر لا ينضبط. فرب مقدمة هي يقينية عند شخص قد علمها وهي مجهولة، فضلا عن أن تكون مظنونة عند من لم يعلمها، فكون المقدمة يقينية، أو غير يقينية، أو مشهورة، أو غير مشهورة، أو مسلمة أو غير مسلمة أمور نسبية وإضافية لها، تعرض بحسب شعور الإنسان بها.
ولهذا تنقلب المظنونة، بل المجهولة في حقه يقينية معلومة، والممنوعة مسلمة، بل والمسلمة ممنوعة. والقرآن كلام الله الذي أنذر به جميع الخلق، لم يخاطب به واحدًا بعينه حتى يخاطب بما هو عنده يقيني من المقدمات، أو مشهور، أو مسلم.
فمقدمات الأمثال فيه اعتبر فيها الصفة الذاتية وهي كونها صدقا، وحقايجب قبوله، وأما جهة التصديق فتتعدد وتتنوع؛ إذ قد يكون لهذا من طرق التصديق بتلك المقدمة ما ليس لعمرو، مثل أن يكون هذا يعلمها بالإحساس والروية، وهذا يعلمها بالسماع والتواتر كآيات الرسول وقصة أهل الفيل، وغير ذلك.
فما كان جهة تصديقه عاما للناس، أمكن ذكره جهة التصديق به، كآيات الربوبية المعلومة بالإحساس دائمًا، وما كان جهة تصديقه متنوعًا، أحيل كل قوم على الطريق التي يصدقون بها.
وقد يقال في مثل هذا: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فإن مخاطبة المعين قد يعلم بها ما هو عنده يقيني أو مشهور من اليقين، أو مسلم منه.
وبهذا يتبين لك أن تقسيم المنطقيين لمقدمات القياس إلى المستيقن والمشهور والمسلم، ليس ذلك وصفا لازما للقضية، بل هو بحسب ما اتفق للمصدق بها، وربما انقلب الأمر عنده، ويظهر لك من هذا أن ما يشهدون عليه أنه ليس بيقيني، أو ليس مشهورًا، وليس بمسلم، ليست الشهادة صحيحة؛ إذ سلب ذلك إنما يصح في حق قوم معينين، لا في حق جميع البشر.
وكذلك الشهادة عليه بأنه يقيني، أو مشهور، أو مسلم، إنما هو في حق من ثبت له هذا الوصف.
وأيضا، القياس حق ثابت لا يتبدل، وما يقوله هؤلاء يتغير ويتبدل ولا يستمر، اللهم إلا في الأمور التي قضت سنة الله باشتراك الناس فيها، من الحسابيات، والطبيعيات.
وهذان الفنان ليسا مقصود الدعوة النبوية، ولا معرفتهما شرطًا في السعادة، ولا محصلًا لها، وإنما المقصود الفن الإلهي. ومقدمات القياس فيه هي من القسم الأول، الذي تختلف فيه أحكام المقدمات، بالنسب، والإضافة. فتدبر هذا فإنه خالص نافع عظيم القدر.
يوضح هذا الفصل أن القرآن ـ وإن كان كلام الله ـ فإن الله أضافه إلى الرسول، المبلغ له من الملك، والبشر، فأضافه إلى الملك في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} إلى قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 12: 21]، فهذا جبرائيل. فإن هذه صفاته، لا صفات محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال:{وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]، أضافه إلينا، امتنانا علىنا بأنه صاحبنا، كما قال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}[النجم:1، 2]. {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 23، 24] فهو محمد، أي: بمتهم، وعلى القراءة الأخرى: ببخيل. وزعم بعض المتفلسفة أنه جبرائيل أيضا، وهو العقل الفاعل الفائض، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه، فإن صفات جبرائيل تقدمت، وإنما هذا وصف محمد، ثم قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25] لما أثبت أنه قول الملك، نفي أن يكون قول الشيطان. كما قال في الشعراء: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} إلى قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} إلى قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون} [الشعراء: 221: 223]. وأضافه إلى الرسول البشري في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 38: 43] فنفي عنه أن يكون قول شاعر، أو كاهن، وهما من البشر. كما ذكر في آخرالشعراء: أن الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم؛ كالكهنة، الذين يلقون إليهم السمع، وأن الشعراء يتبعهم الغاوون.
فهذان الصنفان اللذان قد يشتبهان بالرسول من البشر، لما نفاهما علم أن الرسول الكريم هو المصطفي من البشر، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا، ومن الناس، كما أنه في سورة التكوير لما كان الشيطان قد يشبه بالملك ـ فنفي أن يكون قول شيطان رجيم ـ علم أن الرسول المذكور هو المصطفي من الملائكة.
وفي إضافته إلى هذا الرسول تارة، وإلى هذا تارة، دليل على أنه إضافة بلاغ وأداء، لا إضافة إحداث لشيء منه أو إنشاء، كما يقوله بعض المبتدعة الأشعرية، من أن حروفه ابتداء جبرائيل، أو محمد، مضاهاة منهم في نصف قولهم لمن قال: إنه قول البشر، من مشركي العرب، ممن يزعم أنه أنشأه بفضله، وقوة نفسه، ومن المتفلسفة الذين يزعمون أن المعاني والحروف تأليفه، لكنها فاضت عليه، كما يفيض العلم على غيره من العلماء.
فالكاهن مستمد من الشياطين {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}[الشعراء:224] وكلاهما في لفظه وزن. هذا سجع وهذا نظم، وكلاهما له معان من وحي الشياطين. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ". وقال: " " وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25]: ينفي الأمرين، كما أنه في السورة الأخرى قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ. وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} [الحاقة: 41، 42] وكذلك قال في الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:210] مطلقا.
ثم ذكر علامة من تنزل عليه الشياطين: بأنه أفاك أثيم، وأن الشعراء يتبعهم الغاوون. فظاهر القرآن ليس فيه أن الشعراء تتنزل عليهم الشياطين، إلا إذا كان أحدهم كذابا أثيما، فالكذاب: في قوله، وخبره. والأثيم: في فعله وأمره.
وذاك ـ والله أعلم ـ لأن الشعر يكون من الشيطان تارة، ويكون من النفس أخرى. كما أنه إذا كان حقًا يكون من روح القدس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما دعا لحسان بن ثابت: " ". وقال: " " فلما نفي قِسمَ الشيطانِ نفي قسم النفس، ولهذا قال: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] والغي اتباع الشهوات، التي هي هوى النفوس.
ولهذا قال أبو حيان ما كان من نفسك فأحبته نفسك لنفسك، فهو من نفسك فانهها عنه، وما كان من نفسك فكرهته نفسك لنفسك، فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه، فهذا والله أعلم ـ لأن الكلام نوعان: خبر، وإنشاء. والكاهن يخبر بالغيوب، مخلطًا فيه الصدق بالكذب، لا يأتون بالحق محضًا، وإذا ألقى الشيطان في أمنية أحدهم شيئا في القلب، لم ينسخ منه بل أكثرهم كاذبون. كما قال تعالى، وكما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الكهان لما قال: " " بخلاف الرسول، والنبي، والمحدَّثِ، كما في قراءة ابن عباس وغيره: (فإن الله ينسخ ما يلقى الشيطان).
والقراءة العامة ليس فيها المحدَّث؛ إذ يجوز أن يقر على بعض الخطأ، ويدخل الشيطان في أمنيته بعض ما يلقيه فلا ينسخ، بخلاف الرسول والنبي، فإنه لابد من نسخ ما يلقي الشيطان، وأن يحكم الله آياته؛ لأنه حق، والمحدَّث مأمور بأن يعرض ما يحدَّثه على ما جاء به الرسول. ولهذا ألقى الشيطان لعمر وهو محدَّث، في قصة الحديبية، وقصة موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة اختلافه وحكيم بن حزام في سورة الفرقان، فأزاله عنه نور النبوة.
وأما الشاعر فشأنه التحريك للنفوس، فهو من باب الأمر الخاص المرغب؛ فلهذا قيل فيهم: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، فضررهم في الأعمال لا في الاعتقادات، وأولئك ضررهم في الاعتقادات ويتبعها الأعمال؛ ولهذا قال:{أَفَّاكٍ أَثِيم} [الجاثية: 7] ومعنى الكهانة والشعر: موجود في كثير من المتفلسفة، والمتصوفة، والمتكلمة، والمتفقهة، والعامة، والمتفقرة، الخارجين عن الشريعة الذين يتكلمون بالغيوب عن كهانة، ويحركون النفوس بالشعر ونحوه وهم من أتباع المتنبئين الكذابين لهم مادة من الشياطين. كما قد رأيناه كثيرًا في أنواع من هذه الطوائف وغيرها، لمن نور الله صدره، وقف في قلبه من نوره.