الاختلاط وتعليم الفتيات

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة - العلاقة بين الجنسين - استشارات تربوية وأسرية -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بداية أعتذر عن كثرة أسئلتي، لكن أهمية الموقف دفعتني للاستفسار حوله.

هناك ظاهرة تكاد تكون منتشرة إلى حدٍّ ما في مجتمعي، وهي إقدام بعض الإخوة (الملتزمين)، أو (السلفيين)، أو (المطوعين)؛ كما يُنعتون في مجتمعكم، وضعت هذه الكلمات بين قوسين؛ لبعض التحفظات على توقيف بناتهم عن الدراسة مع نهاية الطور الابتدائي، أو المتوسط كحدٍّ أقصى، وهم يفعلون ذلك انطلاقًا مما يتناقلون من فتاوى عن الشيخ الألباني، والعثيمين - رحمهما الله - وغيرهما من العلماء التي لا تُجيز الاختلاط، ونظرًا لما نراه يوميًّا من سلوكيات منحرفة في متوسطاتنا، وثانوياتنا، وجامعاتنا؛ فإنهم يجدون فيها مبررًا إضافيًّا لما يقومون به!

لا شك أنني لا أختلف معهم - رغم أني لستُ متزوِّجًا - من حيث المبدأُ في عدم جواز الاختلاط، وأضراره على المجتمع، فهذا الموضوع حَسَمه الشرع، ولكن الإشكال الذي يُطرَح هنا: أن هناك خلفيةً ثقافيةً تقف وراءه؛ باعتبار أنه ليس شرطًا أن تكونَ المرأة متعلِّمة، وهي ستكون لها مهام شؤون بيتها فقط، وحاولت إقناعهم - أي: مَن تناقشت معهم حول الموضوع من المتزوجين - بأن هناك فرقًا بين أن ترى بأن تعليم الفتاة شرط ضروريٌّ وهامٌّ، لكن الاختلاط في المدارس والثانويات هو ما يمنع من ذلك، وأن ترى بأنه ليس شرطًا ولا هامًّا.

وأيضًا من خلال ملاحظاتي البسيطة؛ فإنَّ أغلب الأسر التي يكون فيها المستوى التعليمي لزوجين أو لأحدهما محدودًا، فإنها لا تعيش الحياة الزوجية بكل معانيها، كما أنها مشروع لأبناء فاشلين، أو دون المستوى.

هناك استثناءات بكلِّ تأكيد، ولكن نجد أن الأضرار التي تترتب على توقيف الفتاة عن الدراسة في آفاقها المستقبلية - أكبر من احتمالات الانحراف التي قد تقع فيها خلال الدراسة، وطرحتُ عليهم بعض الخطوات العمليَّة التي تُساعد على تجاوز مصاعب مدارسنا المختلطة.

يبقى الأصل هو التربية، وسواء درست البنت أو لم تدرس، فإذا لم يقم الوالدان بتربيتها على أسس علمية - مع التشديد على الأسس العلمية - فإن إمكانية الوقوع في علاقات محرمة تبقى واردة؛ لذا فعلى الوالدين بذلُ مجهودٍ مضاعفٍ في تربية بناتهم، ومراقبتهم بطرق غير مباشرة، واستعمال أسلوب الترغيب في الدراسة، والتحفيز عليها، وفي نفس الوقت الترهيب من أن أي خطأ أخلاقي ستكون عقوبته التوقُّف عن الدراسة.

- مع مُراعاة تغيُّرات مرحلة المراهقة، ولم لا وقبول الخطبة لبناتهن عند بداية مرحلة الثانوية يخلق نوعًا من التوازن النفسي لدى الفتاة، ويمنعها من الدخول في علاقات محرمة؟

وسؤالي هنا من شقين: استشاري، وشرعي:
أولهما: هل الأفكار التي أقترحها عليهم سليمة؟ وما الوسائل والآليات التي يجب اتباعها في التعامل مع واقع الاختلاط في المدارس والثانويات والجامعات، كما هو الحال في مجتمعي؟

أما الثاني: فهل صحيح أن من تدرس ابنته في المتوسطة أو الثانوية التي بها اختلاط - آثم؟ وهل تقدير المصلحة والمفسدة يبيح له القيام بذلك؟

الإجابة:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فنحن نوافقكَ على أكثرِ ما طرحتَ من أن حُرمة الاختلاط محسومة شرعًا ، وأن المستوى التعليمي للوالدين أو لأحدهما يؤثر سلبًا وإيجابًا على الأبناء، ولا أظن أحدًا يُجادل في هذا؛ أمَّا فكرةُ أن هناك خلفيةً ثقافيةً تقف وراء الاختلاط؛ أخذَ البعض موقفًا من تعليم المرأة؛ فهؤلاء إن صرحوا بهذا، فقولك صحيح، أمَّا إن كان استنتاجًا، فهو قابلٌ للأخذ والرد - لا سيما - ونحنُ وأنتَ وغيرُنا لا نتكلم في المطلق، وإنما بحثنا في المعيَّن الذي هو تعليم الفتيات في ظل مؤسسات تعليميَّة مختلطة.

على كل حال؛ فموضعُ وعورة تلك القضية هو تعارض المصلحة، وهي تعليمُ الفتاةِ مع المفسدةِ، وهي النتائجُ الكارثيةُ للاختلاط، والترجيحُ عند تعارض الحسنات والسيئات يتبايَنُ الناسُ فيه تباينًا كبيرًا؛ للتفاوُت بين العقول، وللتفاوُت في العلم الشرعي؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (20 / 48): "إنَّ الشريعةَ جاءتْ بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإنها ترجِّح خيرَ الخيرين، وشرَّ الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين، بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين، باحتمال أدناهما".

إذا علمنا هذا، انتقلنا إلى مسألة الاختلاط، وفيها أن الله - تعالى - ركَّب في كلٍّ من الذكر والأنثى غريزةَ الميْلِ إلى الجِنْس الآخر؛ قال - تعالى -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، ولذلك حَرَصَ الإسلامُ على جعل مسألة الاختِلاط في سياجٍ من الحيْطة والحذَر؛ لئلَّا يُفْضيَ ذلك إلى ما حرَّم الله - تعالى - ولا يخفى عليك أن مجتمعاتنا الإسلامية لمَّا خالفوا تلك القواعد، وقعوا في محرَّمات عظيمة، ومفاسدَ كبيرةٍ غيرِ خافية، وذهب حياءُ المرْأة والرجل. وهذا ما دفع علماءنا لإصدار الفتاوى المحرِّمة للتعليم المختلط؛ لما رأوه وسمعوه من الشرور المحدقة بالبلاد والعباد من جرائه، حتى أوقع - في بعض المجتمعات الإسلامية المفتوحة - في الفاحشة، وزاد الأمر سوءًا انحرافُ كثيرٍ من الفتيات في لبس الشفاف، والضيق.

كلُّ هذا مشفوعًا بلعبهن مع الطلاب، والأساتذة، وَمَزْحِهِن، ونحو ذلك؛ مما أفضى لانتهاك الحرمات، والفوضى في الأعراض.

ولا شك أن ما ذكرناه من المفاسد البدهية، سواءٌ في أعرافنا، وعاداتنا، أو في ديننا، والتي تعود بالسلب - أيضًا - على العملية التعليمية برُمَّتِها؛ من ضعف المستوى العلمي والثقافي عند أكثرِ الخِرِّيجين.

أما المصلحةُ المقابلةُ لتلك المفسدة، فهي تعلُّم العلوم المختلفة، والتي هي من فروض الكفايات الواجبِ توافُرُها في بلاد المسلمين؛ وفقَ ضوابطَ وشروطٍ.

وقبل الموازنة بين تلك وتلك؛ أُحِبُّ أن نتفق على حالة من تلك الحالات، وهي: أن التعليم إذا أفضى إلى انحراف الفتيات، حَرُمَ تعلُّمُها، فالسلامةُ في الدين لا يعدلُها شيءٌ، وكذلك كل من آنس من نفسه ميلًا للانحراف والوقوع في الحرام، والمقاومةُ عنده ضعيفةٌ، أو معدومةٌ، فهؤلاء إن لم يجدوا للتعليم سوى الجامعات والمدارس المختلِطة، فليبحثوا عن طريقة أخرى للتعليم، والتثقف، ولو عن طريق الدراسة بالمراسلة، أو ما شابه؛ {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}[الطلاق: 4]، وقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «إنَّك لن تدَعَ شيئًا لله - عزَّ وجلَّ - إلَّا بدَّلك الله به ما هو خيرٌ لك منه» (رواه أحمد).

وهذا الشيءُ يدركُه كلُّ إنسان من نفسه، كما يعلمُه كثيرٌ من الآباء والأمهات من أبنائهم، فالحذرَ الحذرَ من إيثار الدنيا على الآخرة؛ فالدنيا فانيةٌ، والآخرة باقيةٌ؛ وقد قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم – «لو كانتِ الدُّنيا تعدِل عند الله جَناحَ بعوضةٍ، ما سقى كافرًا منها شربة ماء» (رواه الترمذي وقال صحيح غريب).

وعن جابر بن عبدالله - رضِي الله تعالى عنْه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - مرَّ بالسُّوق داخلًا من بعْض العالية، والنَّاس كَنَفَته - أي: جانبه - فمرَّ بجَديٍ أسكّ - أي: صغير الأذنين - ميِّت، فتناولَه وأخذ بأُذُنه، ثم قال: «أيُّكم يُحب أنَّ هذا له بِدِرْهم؟»، فقالوا: ما نحبُّ أنَّه لنا بشيءٍ، وما نصنع به؟! قال: «أتُحبُّون أنَّه لكم؟»، قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيبًا فيه؛ لأنَّه أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: «فوالله، للدُّنيا أهْون على الله من هذا عليكم» (رواه مسلم).

فماذا سيستفيد هؤلاء بالشَّهادات إذا ضاع الدين وكان المصير هو النَّار؟!

ولا يعني هذا أن تترُكَ الفتياتُ المسلماتُ الدراسةَ الجامعيةَ، أو دراسةَ العُلُومِ الحديثةِ التي ترتقي بها الأمم، كلَّا؛ وإنما المقصود أن يَضَعَ الجميعُ دينَهم نُصْبَ أعيُنِهم، ويضنوا به في أي منفعة دنيوية.

أما باقي الحالات التي تضطرُّ إلى الدراسة في وَسَطٍ مختلِطٍ، ولا تجدُ غيره، فهؤلاء يمكنُ أن نتعاون ونجتهد – جميعًا – في وضع برنامج عملي قابلٍ للتطبيق؛ لتَتَمَكَّن الفتياتُ من التعليم، وأقترحُ غير ما ذكرتَه في كلامك الأمورَ الآتيةَ:

- أن يقتصر الحضورُ على المحاضرات، فإذا انتهت الحاجةُ اليوميَّة من الدراسة، خرجت لتوها من هذا المكان المختلط.

- ارتداء الحجاب، وترك الزينةِ، والتعطرِ والتبرجِ.

- اجتناب الجُلُوس بجوار الرجالِ.

- اجتناب محادثة الرجال فيما لا تدعو الحاجةُ إليه،ويكون الحديثُ واضحًا لا ملاينة فيه، وبعيدًا عن كل ما يَخدِشُ الحَيَاءَ.

- الخوف على النفس من الانحراف فيما لا يرضي الله – تعالى، فإن آنست من نفسها بعض الميل إلى الرجال، امتنعت عن الحضور.

والله أسأل أن يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شر أنفسنا، آمين.