درأ استشكال في حديث غِيرة سعد
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها -
قرأتُ حديثًا، وحَدَث لي لبس في معرفة مدى صحته، وذلك بسبب جملة موجودة ضمن الحديث، والحديث هو: أن رسول الله قال -يومًا- لأصحابه: "إن دخل أحدُكم على أهله ووجد ما يريبه أشهد أربعًا"، فقام سعدُ بن معاذ متأثِّرًا، فقال: يا رسول الله: أدخل على أهلي فأجد ما يريبني، أنتظر حتى أشهد أربعًا؟ لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت ما يريبني في أهلي، لأطيحنَّ بالرأس عن الجسد، ولأضربنَّ بالسيف، وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء، فقال: -عليه الصلاة والسلام-: "أتعجبون من غَيْرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني".
السؤال هو:
هل جملة: "وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء"، هي من ضمن الحديث؟ وهل هي بمثابة تعالٍ على الرسول -عليه الصلاة والسلام- والذات الإلهية؟
وهل يمكنكم أن تعطوني النص الصحيح، ومصدره، والراوي.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعد:
فالغَيرةُ من الغرائز البشرية التي أوْدَعَها الله في الإنسان، وهي صفة محمودة، ولا خير فيمَن لا يغار؛ بل إن قلبه منكوس، والغَيرة على الزنا مما يحبه الله، وأمر بها، فأقوى الناس دينًا أعظمهم غيرة؛ كما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في خطبة الكسوف: "يا أمة محمد، ما أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته" (صحيح البخاري).
وفي الصحيح أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس أحدٌ أحب إليه المدح من الله -عز وجل- مِن أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحش، وليس أحدٌ أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل " (صحيح مسلم). قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: ''ولهذا يُذَم مَن لا غَيرة له على الفواحش؛ كالديوث، ويُذَم مَن لا حمية له يدفع بها الظلم عن المظلومين، ويمدح الذي له غَيرة يدفع بها الفواحش، وحمية يدفع بها الظلم، ويعلم أن هذا أكمل من ذلك، ولهذا وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- الرب بالأكمليَّة في ذلك، فقال في الحديث الصحيح: "لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"، وقال: "أتعجبون من غيرة سعد؟ أنا أغير منه، والله أغير مني" '' اهـ.
بل إنَّ مِن عُقوبات الذنوب: أنها تُطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدَن، فالغيرةُ حرارته وناره التي تُخرج ما فيه من الخَبَث، والصفات المذمومة، كما يخرج الكِير خَبَث الذهب والفِضَّة والحديد، وأشرف الناس وأعلاهم همةً أشدُّهم غيرةً على نفسه، وخاصته، وعموم الناس، ولهذا كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أغير الخلق على الأمة، والله -سبحانه- أشد غيرةً منه؛ قاله ابن القيم في "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" = "الداء والدواء" (ص: 66).
أما قصة سعد فرواها أبو هريرة، قال: قال سعد بن عُبَادة: يا رسول الله، لو وجدتُ مع أهلي رجلًا لم أمسَّه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، قال: كلَّا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسمعوا إلى ما يقول سيدكم؛ إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني"؛ (متفق عليه). وفي رواية عند مسلم، عن أبي هريرة، أن سعد بن عُبَادة الأنصاري، قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلًا أيقتله؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا"، قال سعد: بلى والذي أكرمك بالحق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسمعوا إلى ما يقول سيدكم". ورواه مسلم عن المغيرة بن شعبة، قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا مع امرأتي، لضربتُه بالسيف غير مُصفح عنه، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أتعجبون من غيرة سعد، فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، مِن أجل غيرة الله حرم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، مِن أجل ذلك بعث الله المرسلين، مبشِّرين ومُنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، من أجل ذلك وعد الله الجنة"
. أما الزيادة: "وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء"، فلم نجدها عند غير ابن القيم، وكل من يذكرها ويذكر الحديث بهذا اللفظ فإنما اخذه عن ابن القيم نصّا، ومن ذلك النصّ على أنّ الصحابي هو سعد بن معاذ، مع أن الذي جاء في الصحيحين وغيرهما أنه سعد بن عبادة، وعلى فرْضِ صحتها، فلا يلزم من قولها -من سعد بن عبادة الصحابي الجليل- شيء من التعالي على الرسول -عليه الصلاة والسلام- أو على الذات الإلهية! لأن هذا كفر، كيف وظاهر الحديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم ينكر عليه، ولا نهاه عن قتله، ولا قال له: لو قتلته، قُتِلت به، وإنما الذي في الحديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أثنى على غيرته.
وقد فصل ابن القيم في''زاد المعاد في هَدْي خير العباد'' (5/ 362) حيث قال: ''ولكن ها هنا مسألتان يجب التفريق بينهما:
إحداهما: هل يسعه فيما بينه وبين الله تعالى أن يقتله أو لا؟
والثاني: هل يقبل قوله في ظاهر الحكم أو لا؟
وبهذا التفريق يَزول الإشكال فيما نقل عن الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك، حتى جعلها بعض العلماء مسألة نزاع بين الصحابة، وقال: مذهب عمر -رضي الله عنه- أنه لا يقتل به، ومذهب علي: أنه يقتل به، والذي غرَّه ما رواه سعيد بن منصور في سننه: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- بينا هو يومًا يتغدى، إذ جاءه رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بدم، ووراءه قوم يعدون، فجاء حتى جلس مع عمر، فجاء الآخرون فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر -رضي الله عنه-: ما تقول؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، إني ضربت بين فخذي امرأتي، فإن كان بينهما أحد فقد قتلته، فقال عمر: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة، فأخذ عمر -رضي الله عنه- سيفه فهزه، ثم دفعه إليه، وقال: إن عادوا، فعُدْ، فهذا ما نقل عن عمر رضي الله عنه.
وأما علي فسئل عمَّن وجد مع امرأته رجلًا فقتله، فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء، فليعطَ برمته. فظن أن هذا خلاف المنقول عن عمر، فجعلها مسألةَ خلاف بين الصحابة، وأنت إذا تأملت حكميهما، لم تجد بينهما اختلافًا، فإن عمر إنما أسقط عنه القود لما اعترف الولي بأنه كان مع امرأته، وقد قال أصحابنا -واللفظ لصاحب المغني-: فإن اعترف الولي بذلك، فلا قصاص، ولا دية؛ لما روي عن عمر، ثم ساق القصة، وكلامه يعطي أنه لا فرق بين أن يكون محصنًا، وغير محصن، وكذلك حكم عمر في هذا القتيل، وقوله أيضًا: فإن عادوا فعُدْ، ولم يفرق بين المحصن وغيره، وهذا هو الصواب، وإن كان صاحب المستوعب قد قال: وإن وجد مع امرأته رجلًا ينال منها ما يوجب الرجم، فقتله وادعى أنه قتله لأجل ذلك، فعليه القصاص في ظاهر الحكم، إلا أن يأتي ببينة بدعواه، فلا يلزمه القصاص، قال: وفي عدد البينة روايتان:
إحداهما: شاهدان، اختارها أبو بكر؛ لأنَّ البينة على الوجود لا على الزِّنا.
والأخرى: لا يقبل أقل مِن أربعة، والصحيحُ أن البينة متى قامتْ بذلك أو أقر به الولي، سقط القصاص، محصنًا كان أو غيره، وعليه يدل كلام علي، فإنه قال فيمَن وجد مع امرأته رجلًا فقتله: إن لم يأتِ بأربعة شهداء، فليعط برمته، وهذا لأنَّ هذا القتل ليس بحد للزنا، ولو كان حدًّا لما كان بالسيف، ولاعتبر له شروط إقامة الحد وكيفيته، وإنما هو عقوبة لمن تعدى عليه، وهتك حريمه، وأفسد أهله، وكذلك فعل الزبير -رضي الله عنه- لما تخلَّف عن الجيش ومعه جارية له فأتاه رجلان فقالا: أعطنا شيئًا، فأعطاهما طعامًا كان معه فقالا: خلِّ عن الجارية فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة.
وكذلك مَن اطلع في بيت قوم من ثقب، أو شق في الباب؛ بغير إذنهم، فنظر حرمةً، أو عورةً، فلهم خذفه، وطعنه في عينه، فإن انقلعت عينه، فلا ضمان عليهم. قال القاضي أبو يعلى: هذا ظاهر كلام أحمد أنهم يدفعونه، ولا ضمان عليهم من غير تفصيل. وفصَّل ابن حامد، فقال: يدفعه بالأسهل فالأسهل، فيبدأ بقوله: انصرف، واذهب، وإلا نفعل بك كذا.
قلت: وليس في كلام أحمد ولا في السنة الصحيحة ما يقتضي هذا التفصيل، بل الأحاديث الصحيحة تدل على خلافه، فإن في الصحيحين عن أنس: أن رجلًا اطلع من جحر في بعض حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام إليه بمشقص، أو بمشاقص، وجعل يختله ليطعنه، فأين الدفع بالأسهل وهو -صلى الله عليه وسلم- يختله، أو يختبئ له، ويختفي ليطعنه.
وفي حديث سهل بن سعد: أن رجلًا اطلع في جحر في باب النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي يد النبي -صلى الله عليه وسلم- مدرًى يحك به رأسه، فلما رآه، قال: "لو أعلم أنك تنظرني، لطعنت به في عينك، إنما جُعِل الإذن من أجل البصر" (صحيح مسلم).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو "أن امرأً اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة، ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح" (صحيح البخاري).
وفيهما أيضًا: "مَن اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقؤوا عينه، فلا دية له، ولا قصاص" (صحيح الجامع).
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله- وقال: ''ليس هذا من باب دفع الصائل، بل من باب عقوبة المعتدي المؤذي، وعلى هذا فيجوز له فيما بينه وبين الله - تعالى- قتل مَن اعتدى على حريمه، سواء كان محصنًا أو غير محصن، معروفًا بذلك، أو غير معروف، كما دل عليه كلام الأصحاب، وفتاوى الصحابة''.
وقال في ''زاد المعاد في هَدْي خير العباد'' (ص365/5): ''فإن قيل: فما تقولون في الحديث المتفق على صحَّتِه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلًا أيقتله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا"، فقال سعد: بلى والذي بعثك بالحق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسمعوا إلى ما يقول سيدكم".
وفي اللفظ الآخر: إن وجدت مع امرأتي رجلًا، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: "نعم"، قال: والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسمعوا إلى ما يقول سيدكم؛ إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني".
قلنا: نتلقاه بالقبول والتسليم، والقول بموجبه، وآخر الحديث دليل على أنه لو قتله، لم يُقَدْ به؛ لأنه قال: بلى والذي أكرمك بالحق، ولو وجب عليه القصاص بقتله، لما أقره على هذا الحلف، ولما أثنى على غيرته، ولقال: لو قتلتَه قُتِلتَ به.
وحديث أبي هريرة صريح في هذا، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتعجبون من غيرة سعد، فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني"، ولم ينكر عليه، ولا نهاه عن قتله؛ لأن قوله -صلى الله عليه وسلم- حكم ملزم، وكذلك فتواه حكم عام للأمة، فلو أذن له في قتله، لكان ذلك حكمًا منه بأن دمه هدر في ظاهر الشرع وباطنه، ووقعت المفسدة التي درأها الله بالقصاص، وتهالك الناس في قتل مَن يريدون قتله في دورهم ويدعون أنهم كانوا يرونهم على حريمهم، فسدَّ الذريعة، وحمى المفسدة، وصان الدماء، وفي ذلك دليل على أنه لا يقبل قول القاتل، ويقاد به في ظاهر الشرع، فلما حلف سعد أنه يقتله، ولا ينتظر به الشهود عجب النبي -صلى الله عليه وسلم- من غيرته، وأخبر أنه غيور، وأنه -صلى الله عليه وسلم- أغير منه، والله أشد غيرةً.
وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: إقراره وسكوته على ما حلف عليه سعد أنه جائز له فيما بينه وبين الله، ونهيه عن قتله في ظاهر الشرع، ولا يناقض أول الحديث آخره.
والثاني: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك كالمنكر على سعد، فقال: "ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم"؛ يعني: أنا أنهاه عن قتله، وهو يقول: بلى والذي أكرمك بالحق، ثم أخبر عن الحامل له على هذه المخالفة، وأنه شدة غيرته، ثم قال: أنا أغير منه، والله أغير مني، وقد شرع إقامة الشهداء الأربعة مع شدة غيرته -سبحانه- فهي مقرونة بحكمة ومصلحة، ورحمة وإحسان، فالله -سبحانه- مع شدة غيرته أعلم بمصالح عباده، وما شرعه لهم من إقامة الشهود الأربعة دون المبادرة إلى القتل، وأنا أغير من سعد، وقد نهيتُه عن قتله، وقد يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلا الأمرين، وهو الأليق بكلامه، وسياق القصة''. اهـ.
وفقنا الله لفَهم كتابه وسنة نبيه.