حكمُ وضعِ المدفأة في قبلة المصلي

حسام الدين عفانه

  • التصنيفات: فقه الصلاة -
السؤال:

في أيام الشتاء نضع عدة مدافئ كهربائية في قبلة المسجد أثناء الصلوات، فاعترض بعض المصلين بأن هذا يُعدُّ تشبهاً بالمجوس، فما حكم وضع هذه المدافئ في قبلة المصلين؟ 

الإجابة:

أولاً: مكان الصلاة سواء كان المسجد أو البيت ينبغي أن يكون خالياً من كل ما يشغل المصلي عن صلاته، ويشوش عليه، ويُخلُّ بخشوعه في صلاته، سواء كان ذلك صورةً أو زخرفةً أو مدفأةً أو جهازاً لقتل الحشرات، ونحو ذلك.

وقد دلت السنة النبوية على ذلك، فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى في خميصةٍ لها أعلامٌ، فنظر إلى أعلامها نظرةً، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم…فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي» (رواه البخاري ومسلم).

وفي روايةٍ أخرى قال عليه الصلاة والسلام: «كنت أنظر إلى عَلَمها وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتنني» (رواه البخاري).

 [والخميصة كساء له أعلام، أي: فيه شيءٌ من الخطوط الممتدة، وقد تكون في طوله وقد تكون في عرضه، وهذه الخطوط قد ينظر إليها الإنسان فيُحُدثُ بها نفسَه، أو ينشغل قلبهُ بالأشياء التي يراها أمامه، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لبه وقلبه وحديثه في الصلاة كله حاضراً فيما يتعلق بالصلاة، ولا يُحُدثُ نفسه بشيءٍ خارج عن عبادته، فعرف أن هذه الخطوط التي في هذه الخميصة قد تشغل قلبه ولو كان قليلاً] شرح عمدة الأحكام 20/9.

وعن أنس رضي الله عنه قال كان قِرام- ستر رقيق من صوف ذو ألوان- لعائشة رضي الله عنها سترت به جانب بيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أميطي عني قرامك فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي» (رواه البخاري).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن طلحة: «إن كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت، فنسيت أن آمرك أن تُخَمِّرَهما فخَمِّرْهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيءٌ يَشغلُ المصلي» (رواه أحمد وأبو داود وصححه العلامة الألباني في الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب1/434).

وعن مجاهد قال: لم يكن ابن عمر رضي الله عنه يدع شيئاً بينه وبين القبلة إلا نزعه؛ سيفاً ولا مصحفاً، ونص أحمد على كراهة الكتابة في القبلة لهذا المعنى، وكذا مذهب مالك. فتح الباري لابن رجب 3/208.

وقد نصَّ العلماء على كراهة أن يكون شيء في قبلة المصلي لئلا ينشغل قلبُهُ ويذهب خشوعُهُ،

فقد ورد في المدونة1/197: [قلت: أكان مالكٌ يكره أن يكون في القبلة مثل هذا الكتاب الذي كتب في مسجدكم بالفسطاط ؟ قال: سمعت مالكاً وذكر مسجد المدينة وما عُمل فيه من التزويق في قبلته وغيره، فقال: كره ذلك الناس حين فعلوه، وذلك لأنه يشغلُ الناسَ في صلاتهم ينظرون إليه فيلهيهم].

وفيها أيضاً1/425: [قلت لابن القاسم: أكان مالكٌ يكره التزويق في القبلة؟ قال: نعم كان يكرهه، ويقول يشغلُ المصلين].

وقال الإمام أحمد: [ولا يُكتب في القبلة شيءٌ، وذلك لأنه يشغلُ قلب المصلي، وربما اشتغل بقراءته عن صلاته، وكذلك يُكره تزويقها، وكلُّ ما يشغلُ المصلي عن صلاته] المغني2/72.

وقال الإمام النووي: [يُكره زخرفةُ المسجد ونقشهُ وتزيينهُ للأحاديث المشهورة، ولئلا تشغلَ قلبَ المصلي] المجموع2/180.

وقال صديق حسن خان: [وتزيينه –أي المسجد- يشغلُ القلوبَ عن الإقبال على الطاعة، ويُذهبُ الخشوعَ الذي هو روح جسم العبادة، والقول بأنه يجوز تزيين المحراب باطل] الروضة1/477.

وقال الحطاب المالكي: [قال ابن رشد: كان مالكٌ يكره أن يكتب في القبلة في المسجد شيءٌ من القرآن أو التزاويق، ويقول: إن ذلك يشغلُ المصلي، قال: ولقد كره مالكٌ أن يُكتب القرآن في القراطيس فكيف في الجُدُر؟  قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من كراهة تزويق المسجد، والعلةُ في ذلك ما يخشى على المصلين من أن يلهيهم ذلك في صلاتهم] 2/ 263 -264.

وقال ابن مفلح الحنبلي: [قال في (الفصول) وغيره: يكره أن يكتب على حيطان المسجد ذكراً، وغيره، لأن ذلك يشغل المصلي، ويلهيه] المبدع شرح المقنع 1/143.

ثانياً: لا ينبغي أن توضع المدافئ الكهربائية وغيرها في قبلة المصلين، لأنها تشغل المصلين، وتلهيهم عن صلاتهم، وتخلُّ بخشوعهم، طالما أمكن وضعها في غير قبلة المصلين، فإذا تعذر ذلك ووضعت في قبلة المصلين للحاجة إليها، فلا حرج إن شاء الله تعالى،

قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويكره أن يصلي إلى نارٍ، قال أحمد: إذا كان التنور في قبلته لا يصلي إليه، وكره ابن سيرين ذلك، وقال أحمد: في السراج والقنديل يكون في القبلة أكرهه وأكره كل شيءٍ حتى كانوا يكرهون أن يجعلوا شيئاً في القبلة حتى المصحف، وإنما كره ذلك، لأن النار تُعبد من دون الله، فالصلاة إليها تشبه الصلاة لها] المغني2/72.

وقال الشوكاني: [وأما الصلاة إلى التنور فكرهها محمد بن سيرين وقال‏: ‏بيت نار، رواه ابن أبي شيبة في المصنف...وأما السراج فللفرار من التشبيه بعبدة النار، والأولى عدم التخصيص بالسراج ولا بالتنور بل إطلاق الكراهة على استقبال النار فيكون استقبال التنور والسراج وغيرهما من أنوع النار قسماً واحداً‏‏] نيل الأوطار٢/١٤٤.

[وصرَّح المالكية والحنابلة بكراهة استقبال شيءٍ من النار في الصلاة -ولو سراجاً أو قنديلاً أو شمعةً موقدة -لأن فيه تشبيهاً بعبدة النار، وذهب الحنفية إلى عدم كراهة استقبال هذه الأشياء، قالوا: لأن المجوس تعبد الجمر لا النار الموقدة، ولذا قالوا بكراهة الصلاة إلى تنور أو كانون فيه جمر] الموسوعة الفقهية27/113.

وما ذكره بعض الفقهاء من كراهة استقبال شيءٍ من النار في الصلاة كالتنور ونحوه، لأن فيه تشبهاً بعبدة النار، غير مسلَّمٍ، لأن المسلم الموحد لا يعبد إلا الله عز وجل، ولا يخطر بقلب المسلم أنه يصلي للنار، أو أنه يقصد التشبه بالمجموس، وإنما المأخذُ الصحيح للكراهة والله أعلم، هو منع إشغال المصلي، ودفع كل ما يُخل بخشوعه.

قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب من صلى وقدَّامه تنورٌ أو نارٌ أو شيءٌ مما يعبد، فأراد به الله عز وجل].

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [ومقصود البخاري بهذا الباب: أن من صلَّى لله عز وجل، وكان بين يديه شيءٌ من جنس ما عُبد من دون الله، كنارٍ وتنورٍ وغير ذلك، فإن صلاته صحيحة، وظاهر كلامه أنه لا يُكره ذلك أيضاً] فتح الباري لابن رجب3/208.

وقد سئل الشيخ العثيمين: [بعضُ الناس يتورع أن يصلي أمام المدفأة، فهل هذا صحيحٌ؟ فأجاب: الصحيح أنه لا بأس بذلك، وما علمنا أن أحداً كرهه من أهل العلم، وإنما كره بعض العلماء استقبال النار التي تتوهج ولها لهيب، وعللوا كراهيتهم لذلك بأن وقوفهم بين يدي النار يشبه وقوف المجوس الذين يعبدون النار، فأما هذه الدفايات فليست كنار المجوس، وإذا قلنا بهذا لقلنا حتى النجفات لا نضعها في الجدران وتُزال من المسجد إذا كانت في القبلة؛ لأنها نار، وما زلنا نذكر عن علمائنا أنهم كانوا يأتون بالمباخر ويضعونها أمام الناس بين يدي الصفوف، ثم إن المدفأة هذه إنما تكون بين يدي المأمومين لا بين يدي الإمام، والذي يؤثر هو ما يكون بين يدي الأمام، لو قلنا: إنه مكروه؛ لأن المأمومين تبعٌ لإمامهم، ولهذا لا يُشرع لهم اتخاذ السترة؛ لأن سترةَ الإمام، سترةٌ لمن خلفه، المهم أنه ليس في النفس شيء، ولا بأس بها].

ثالثاً: قضية التشبه بالمجوس المشار إليه في السؤال، ليست ورادةً في هذا المقام، لما ذكرته سابقاً، ولأن حقيقة التشبه لا تحصل إلا بنيةٍ مصاحِبةٍ؛  وذلك أن التشبه فِعلٌ مُتَكلَّف لتحصيل مشابهة المتشبَّه به. ولا يكون هنالك تشبهٌ ما دام يوجد حاجةٌ أو ضرورةٌ، فإن وجدت الحاجةُ أو الضرورةُ، فلا تشبه، والحاجة قائمةٌ في استعمال المدافئ الكهربائية في المساجد أيام الشتاء. انظر ضوابطُ التشبُّه المحرَّم في اللباس والزِّينة وتطبيقاتُهُ المعاصرةُ.

وكذلك فإن المدافئ الكهربائية ليست ذات لهبٍ،  قال ابن عابدين نقلاً عن صاحب كتاب القنية: [الصحيح أنه لا يكره أن يصلي وبين يديه شمع أو سراج لأنه لم يعبدهما أحدٌ، والمجوس يعبدون الجمر لا النار الموقدة، حتى قيل: لا يكره إلى النار الموقدة‍. وظاهره أن المراد بالموقدة التي لها لهب، لكن قال في العناية: إن بعضهم قال: تكره إلى شمعٍ أو سراجٍ،  كما لو كان بين يديه كانون فيه جمر أو نار موقدة. وظاهره أن الكراهة في الموقدة متفق عليها كما في الجمر] حاشية ابن عابدين١/٧٠٣.

وخلاصة الأمر أن مكان الصلاة سواء كان المسجد أو البيت ينبغي أن يكون خالياً من كل ما يشغلُ المصلي عن صلاته، ويشوشُ عليه، ويُخلُّ بخشوعه في صلاته، سواء كان ذلك صورةً أو زخرفةً أو مدفأةً أو جهازاً لقتل الحشرات ونحوها، وأنه لا ينبغي أن توضع المدافئ الكهربائية وغيرها في قبلة المصلين، لأنها تشغل المصلين وتلهيهم عن صلاتهم وتخل بخشوعهم، طالما أمكن وضعها في غير قبلة المصلين، فإذا تعذر ذلك ووضعت في قبلة المصلين للحاجة إليها، فلا حرج إن شاء الله تعالى.

وأن قضية التشبه بالمجوس في وضع المدافئ الكهربائية وغيرها في قبلة المصلين، ليست ورادةً في هذا المقام،  لأن المسلم الموحد لا يعبد إلا الله عز وجل، ولا يخطرُ بقلب المسلم أنه يصلي للنار، أو أنه يقصد التشبه بالمجوس،  وإنما المأخذُ الصحيح للكراهة والله أعلم، هو منعُ إشغال المصلي، ودفعُ كل ما يُخلُّ بخشوعه. كما أن الحاجة قائمةٌ لاستعمال المدافئ الكهربائية في المساجد أيام الشتاء، وهي لا تشبه ما يعبده المجوس.

والله الهادي إلى سواء السبيل.