مسافةُ السفر المبيحة للفطر والقصر ولا قصرَ ولا فطرَ داخل المدينة المترامية الأطراف

حسام الدين عفانه

  • التصنيفات: فقه الصلاة - فقه الصيام -
السؤال:

يقول السائل: إنه يسكن في ضاحية من ضواحي مدينة القدس، وإنه يدرس في جامعة القدس، وعنده فصلٌ صيفيٌ وكما تعلمون جاء رمضان، فقال له بعض الناس يلزمك أن تفطر ولا يجوز أن تصوم لأنك تقطع مسافة سفرٍ من بيتك إلى الجامعة، فما قولكم في ذلك؟

الإجابة:

أولاً: السفرُ سببٌ من أسباب الفطر المشروعة في رمضان، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة الآية 184].وقد بينت في حلقة سابقة من يسألونك أن المسافر في نهار رمضان مخيرٌ بين الصوم والفطر، وهذا القول هو الصحيح الذي دلَّ عليه قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فأفطر فليقض أياماً أخر. وهو الذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم كما هو ثابتٌ في عدة أحاديث «صام وأفطر»، ووقع ذلك من الصحابة «فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم». وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم) فكانت رخصةً، فمنَّا من صام، ومنَّا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال: (إنكم مصبِّحو عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا)، فكانت عَزْمَة، فأفطرنا، ثم رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر» (رواه البخاري ومسلم). فهذا الحديث نصٌ في المسألة، حيث إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصومون بعد فتح مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ولم ينكر عليهم. قال الحافظ ابن حجر: [وهذا الحديث نصٌ في المسألة] فتح الباري 4/184. 

ثانياً: إذا تقرر هذا فإن الفقهاء قد اختلفوا اختلافاً كبيراً في مسافة السفر المبيح للقصر والفطر، والمسألة من مسائل الاجتهاد، ويعود اختلافهم إلى أنه لم يثبت نصٌ صحيحٌ صريحٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحديد مسافة السفر، فاجتهد فقهاءُ الأمة في تحقيق المناط في هذه المسألة، قال الشيخ العلامة الشنقيطي: [والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط، فكل ما كان يطلق عليه اسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه؛لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارفٌ من نقلٍ صحيحٍ، ومطلقُ الخروج من البلد لا يُسمَّى سفراً، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء وإلى أحد ولم يقصر الصلاة] أضواء البيان5/103.

ثالثاً: روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين» والشك من شعبة أحد الرواة. وهذا الحديث ليس نصاً في المسألة عند جماهير أهل العلم، ولهم عنه إجاباتٍ عديدةٍ منها:

(1)ليس في الحديث جزمٌ بأي المسافتين، ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ. والفرسخ ثلاثة أميال. قال الصنعاني: [فذهب الظاهرية إلى العمل بهذا الحديث، القصرُ ثلاثةُ أميال. وأُجيب عليهم بأنه مشكوكٌ فيه فلا يحتج به على التحديد بالثلاثة الأميال، نعم يحتج به على التحديد بالثلاثة الفراسخ، إذ الأميالُ داخلةٌ فيها فيؤخذ بالأكثر وهو الاحتياط] سبل السلام2/39.

(2)أجاب بعض أهل العلم بأن المراد بحديث أنس رضي الله عنه هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ القصر من تلك المسافة، قال القرطبي: [وهذا لا حجة فيه، لأنه مشكوكٌ فيه، وعلى تقدير أحدهما، فلعله حدُّ المسافرة التي بدأ منها القصر، وكان سفراً طويلاً زائداً على ذلك] تفسير القرطبي5/333. وقال ابن الجوزي: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين، هذا شيءٌ لا يقول به أحدٌ من أرباب المذاهب الظاهرة، وإن كان هذا الحديث مذهباً لجماعةٍ من السلف، فقد كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ، وقال ابن عمر إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر، وإنما يحمل هذا الحديث على أحد شيئين: أحدهما أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بنية السفر الطويل، فلما سار ثلاثة أميال قصر ثم عاد من سفره فحكى أنس ما رأى. والثاني أن يكون منسوخاً] كشف المشكل من حديث الصحيحين1/876. وقال الشيخ عطية سالم: [هناك من أخذ هذا النص وجعل ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ هي مدة السفر التي تقصر فيه الصلاة، وهذا خطأ، والصحيح في ذلك يُؤخذ من قوله: (إذا خرج) فلم يقل: إذا سافر، ولاحظوا الدقة في التعبير، وكأن السفر غير الخروج. فيقول: إذا خرج في سفرٍ طويلٍ، وقطع من السفر الطويل ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -شك من الرواي- صلى ركعتين، يعني أنه يشرع في قصر الصلاة في السفر الطويل بعد أن يقطع ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -على الشك- ولا يشرع في قصر الصلاة من بيته؛ هذا حاصل هذا الحديث] شرح بلوغ المرام7/92.

(3)زعم بعض المتعالمين أن هذا الحديث نصٌ في المسألة، فأخذ يُعنف الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء بطريقة استهزائية، ولسان حاله يقول:

وإِنــي وَإِن كـنـت الْأَخـيـر زِمـانـه *** لَآَتٍ بـمـا لــم تَأت به الأوَائـــل

حتى إنه زعم أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يطلع على حديث أنس رضي الله عنه، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية تكلم على فقه هذا الحديث كما في مجموع الفتاوى24/131. وما درى هذا المتطاول على الأئمة الأعلام أنه عرف شيئاً وغابت عنه أشياء، وكما قال الشاعر:

وكمْ من عائِبٍ قوْلاً صَحيحاً *** وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السّـــــقيمِ.

رابعاً: مذهب جمهور أهل العلم أن مسافة القصر تُقدر بأربعة بُرُد، أي ثمانية وأربعون ميلاً، وهو ما يساوي ثلاثة وثمانين كيلو متراً تقريباً، وقد ثبت هذا التقدير بأسانيد صحيحة عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وصحح هذه الآثار الإمام النووي في المجموع 4/328، فعن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم (كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة بُرُد فما فوق ذلك) وسأل عطاء ابن عباس: أأقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، فقال: إلى منى؟ فقال: لا، لكن إلى جدة وعسفان والطائف) وهذا أحوط الأقوال في المسألة. وذهب جماعةٌ من أهل العلم إلى أن مسافة السفر مرجعها إلى العرف، لأنه لم يرد فيها تحديدٌ عن صاحب الشرع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [كل اسمٍ ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفراً في عرف الناس، فهو السفر الذي علَّق به الشارع الحكم] مجموع الفتاوى24/40-41. وهذا القولٌ وجيهٌ وقوي من حيث الأدلة.

خامساً: اتفق جماهير علماء الإسلام على أن المسافر لا يقصر ولا يجمع ولا يفطر إلا بعد أن يفارق محلته أو قريته أو مدينته، قال ابن المنذر: [أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للذي يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها] المغني2/97. وذلك لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [سورة النساء الآية101].فهذه الآية الكريمة أصلٌ في القصر في السفر، فقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} أي: سافرتم، وقال العلامة الشنقيطي: [يبتدئ المسافرُ القصرَ إذا جاوز بيوت بلده، بأن خرج من البلد كله، ولا يقصر في بيته إذا نوى السفر، ولا في وسط البلد، وهذا قول جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة، وأكثر فقهاء الأمصار، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قصر بذي الحليفة، وعن مالك أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة أن حكمها حكم البلد، فلا يقصر حتى يجاوزها، واستدل الجمهور على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد، بأن القصر مشروطٌ بالضرب في الأرض، ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض] أضواء البيان5/105.

وبناءً على ما سبق فمن غادر منزله وبقي داخل قريته أو مدينته لا يُسمَّى ضارباً في الأرض ولا مسافراً لا لغةً ولا شرعاً ولا عرفاً. فالذي يقطع أي مسافةٍ داخل مدينته لا يكون مسافراً، حتى لو بلغت مئة كيلو متر، كما هو الحال الآن في المدن الكبيرة المترامية الأطراف، ومن زعم أن هذا مسافرٌ فهو جاهلٌ بدلالات الكتاب والسنة وبلغة العرب وبأعراف الناس الصحيحة، [قال ابن العربي: وقد تلاعب قومٌ بالدين فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر وأكل، وقائلُ هذا أعجميٌ لا يعرف السفرَ عند العرب أو مستخفٌ بالدين، ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أفكر فيه بفضول قلبي. ولم يُذكر حدُّ السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة، وإنما كان كذلك، لأنها كانت لفظةً عربيةً مستقرٌ علمُها عند العرب الذين خاطبهم الله تعالى بالقرآن، فنحن نعلم قطعاً أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافراً لغةً ولا شرعاً، وإن مشى مسافراً ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعاً] تفسير القرطبي5/354. وقال الشوكاني: [فالواجبُ الرجوعُ إلى ما يصدق عليه أنّه سفر، وأنّ القاصد إليه مسافر، ولا ريب أنّ أهل اللغة يطلقون اسم المسافر على من شدًّ رحله وقصد الخروج من وطنه إلى مكانٍ آخرٍ، فهذا يصدق عليه أنّه مسافرٌ وأنّه ضاربٌ في الأرض، ولا يطلقون اسم المسافر على من خرج مثلاً إلى أمكنةٍ قريبةٍ من بلده لغرض من الأغراض] السيل الجرار1/308. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وابن حزمٍ يقول: السفر هو البروز عن محلة الإقامة;لكن قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا ولم يفطروا. فخرج هذا عن أن يكون سفراً] ومن المعلوم أن حرم المدينة النبوية بريدٌ في بريدٍ، وهو المذكور في الحديث «إن ابراهيم حرًّم مكة، وإني أُحرِّم ما بين لابتيها» (رواه مسلم). وفي الحديث الآخر «المدينة حرامٌ ما بين عَيرٌ إلى ثورٍ» وهما جبلان في جنوب المدينة وشمالها، (رواه البخاري ومسلم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة، وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حِمَىً» (رواه البخاري ومسلم). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته يذهبون من طرف المدينة إلى طرفٍ آخر وما كانوا يقصرون الصلاة.
وخلاصة الأمر أن المسافر في نهار رمضان مخيرٌ بين الصوم والفطر، وهذا القول هو الصحيح الذي تؤيده الأدلة. وأن الفقهاء قد اختلفوا اختلافاً كبيراً في مسافة السفر المبيح للقصر والفطر، والمسألة من مسائل الاجتهاد، ويعود اختلافهم إلى أنه لم يثبت نصٌ صحيحٌ صريحٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحديد مسافة السفر. وحديث أنس رضي الله عنه «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين» والشك من شعبة أحد الرواة، ليس نصاً في المسألة عند جماهير أهل العلم، ولهم عنه إجاباتٍ عديدةٍ. وأن جماهير علماء الإسلام يقولون بأن المسافر لا يقصر ولا يجمع ولا يفطر إلا بعد أن يفارق محلته أو قريته أو مدينته، وبناءً على ما سبق فمن غادر منزله وبقي داخل قريته أو مدينته لا يسمى ضارباً في الأرض ولا مسافراً، لا لغةً ولا شرعاً ولا عرفاً. فالذي يقطع أي مسافةٍ داخل مدينته لا يكون مسافراً، حتى لو بلغت مئة كيلو متر، كما هو الحال الآن في المدن الكبيرة المترامية الأطراف، ومن زعم أن هذا مسافرٌ فهو جاهلٌ بدلالات الكتاب والسنة وبلغة العرب وبأعراف الناس الصحيحة. والله الهادي إلى سواء السبيل.