امتلاك الجن في عمل الخير
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
أودُّ أن أعرف حكم امتِلاك الجن في الإسلام، علمًا أنَّني سمعت أنَّ كثيرًا من الأشخاص - خاصَّة في عمان - يَمتلكون الجنَّ عن طريق العِلْم، ومن دون أن يُقَدِّموا لهم أي شيء، وغالبًا ما يكون الجنُّ الذي يمتلكونَه مسلم، ويُساعده في أعمال الخير وليس الشر.
سؤالي هنا: هل يجوز ذلك؟
هل يَجوز امتلاك الجنِّ في عمل الخير، مثل أن يدلَّ الجنِّيُّ على شيء فَقَده شخصٌ ما، أو يُخبره بأنَّ فلانًا مريض؛ لأنَّه مسحور، والسَّبب كذا وكذا ... إلخ، ما حكم ذلك؟
وهناك أشخاصٌ أعرِفهم يَمتلكون الجنَّ؛ فقط لكي يَحميَهُم من الأضْرار، فهل يجوز هذا؟
وأعرف أنَّ بعضًا منهم يَملكون من غير أن يعلموا، فقط وراثة من جدِّه أو أبيه، حتَّى إنَّ بعضًا مِن أصْحابي يَسْكن معِي يَملِك جنًّا شيوخًا، ولَم يعلم ذلك إلاَّ قريبًا، ولا يعرف من أين يَمتلِكُهم وكيفيَّة ذلك، وبعض الأوْقات يقابلُهم باللَّيل عندما يكون وحيدًا، أو عندما تنطفِئ الأنوار وفي المنام، علمًا أنَّهم في اللقاء ينصَحونه بالصَّلاة والطَّهارة، والابتِعاد عن معصية الله، كالنَّظر المحرَّم، إلى غير ذلك، أرْجو الإفادة وجُزِيتُم خيرًا.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فلا يَجوز الاستِعانة بالجِنِّ، ولو في أعمال الخير؛ لما يؤول إليْه غالبًا من مفاسدَ كثيرة، ولأنَّها من الأمور الغيبيَّة التي تفتقِر إلى نصوص شرعيَّة من القرآن أو السنَّة، ولأنَّه يصعُب على المرْء التَّمييز بين مسلمِهم وكافِرهم؛ لأنَّ معرفة ذلك تلزم الدِّراية التامة بخُلقِهم ودينهم، والتِزامهم وتقواهم، ولا يَخفى أنَّه متعذِّر، وأيضًا لم يثبُتْ عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا عن أحدٍ من خُلَفائِه الرَّاشدين، ولا عن أحدٍ من القُرون الخيريَّة - أنَّه استعان بهم، مع وجود الدَّاعي وعدم المانع.
ولا شكَّ أنَّ العصر الذي نحْياه قدِ انتشر فيه الجهْل وقلَّ الورَع، فلا يؤْمَن على منِ استعان بالجنِّ في أعمال الخير، من الوقوع في الشَّعوذة والسِّحر، والانحراف عن الشَّرع، والواقع خير شاهدٍ على ما نقول، لاسيَّما من يجهل الشريعة.
قال ابن مفلح في "الآداب الشرعيَّة": "قال أحمد في رواية البرزاطي، في الرَّجُل يزْعُم أنَّه يعالج المَجْنون من الصرع بالرُّقى والعزائم، أو يزعُم أنَّه يخاطب الجن ويكلِّمُهم، ومنهم من يخدمه، قال: ما أحبُّ لأحدٍ أن يفعلَه، ترْكُه أحبُّ إليَّ".
وسُئِل العلاَّمة محمَّد بن إبْراهيم عن الاستِعانة بالجِنِّ، فقال: "إنَّه طلبٌ من الجنِّ، فيدْخل في سؤال الغائبين، الَّذي يشبه سؤال الأمْوات، وفيه رائحة من روائِح الشِّرك". اهـ.
وقال الشَّيخ ابن باز: "وأمَّا اللُّجوء إلى الجنِّ، فلا؛ لأنَّه وسيلةٌ إلى عبادتهم وتصديقِهم، لأن في الجنِّ مَن هو كافر، ومَن هو مسلم، ومَن هو مبتدِع، ولا تُعْرف أحوالهم، فلا ينبغي الاعتماد عليْهم ولا يُسألون، وقد ذمَّ الله المشركين بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]، ولأنَّه وسيلة للاعتِقاد فيهم والشِّرك، وهو وسيلة لطلب النَّفع منهم والاستِعانة بهم، فأرى أنَّه لا يَجوز؛ لأنَّ في ذلك استِخْدامًا لهم، وقد لا يَخدمون إلا بتقرُّب إليْهِم واستضعاف لهم". اهـ.
وقد ذهبَ شيخ الإسلام ابن تيميَّة إلى جَواز استِعْمال الجنِّ في الأمور المباحة، فقال - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى": "والمقصود هنا أنَّ الجنَّ مع الإنس على أحوال: فمَن كان من الإنس يأمُر الجنَّ بما أمر الله به ورسولُه، من عبادة الله وحْده، وطاعة نبيِّه، ويأْمُر الإنسَ بذلك - فهذا من أفْضل أوْلياء الله - تعالى - وهو في ذلك من خُلَفاء الرَّسول ونوَّابه، ومن كان يستعْمِل الجنَّ في أمور مباحة له، فهو كمَنِ استعمل الإنس في أمورٍ مُباحة له، وهذا كأن يأمُرَهم بما يَجب عليْهم، وينهاهم عمَّا حرم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزِلة الملوك الذين يَفعلون مثل ذلك، وهذا إذا قدر أنَّه من أولياء الله - تعالى - فغايتُه أن يكون في عموم أوْلياء الله؛ مثل النبي الملك مع العبد الرَّسول؛ كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى، وعيسى ومحمَّد - صلوات الله وسلامُه عليهم أجمعين - ومَن كان يستعمل الجنَّ فيما ينهى اللهُ عنْه ورسولُه، إمَّا في الشِّرك، وإمَّا في قتْل معصوم الدَّم، أو في العدوان عليْهِم بغير القتل؛ كتمريضه وإنسائِه العلم، وغير ذلك من الظُّلم، وإمَّا في فاحشة؛ كجلب مَن يطلب منه الفاحشة - فهذا قدِ استعان بهم على الإثْم والعُدوان، ثمَّ إنِ استعان بِهِم على الكُفْر، فهو كافر، وإنِ استعان بهم على المعاصي، فهو عاصٍ: إمَّا فاسق، وإمَّا مذنب غير فاسق، وإن لم يكن تامَّ العِلْم بالشريعة، فاستعان بهم فيما يظنُّ أنَّه من الكرامات؛ مثل أن يستعين بهم على الحجِّ، أو أن يطيروا به عند السَّماع البدعي، أو أن يحملوه إلى عرفات، ولا يحجُّ الحجَّ الشَّرعي الذي أمره الله به ورسولُه، وأن يَحملوه من مدينة إلى مدينة، ونحو ذلك - فهذا مغرور قد مكَروا به". اهـ.
والَّذي يظهر أنَّ التَّعامل مع الجنِّ يُفْضِي - في الغالب - إلى أمور محرَّمة، قد تصِل بصاحبها إلى الشِّرْك، والعياذ بالله.
والله أعلم.