حكم التعاقد شفوياً وآثاره
حسام الدين عفانه
- التصنيفات: فقه المعاملات -
يقول السائل إنه يوزع بضاعةً لشركة مواد غذائية، وقد استخدم سيارته ومخزنه وثلاجته في توزيع منتجات الشركة، وبينه وبين الشركة اتفاقٌ شفوي، وبعد بضع سنين طلبت منه الشركة أن يخفض الأسعار، وأن يزيد جهوده في التوزيع، مما يزيد من مبيعات الشركة ويرهقه وينقص دخله، فما حقُّ كل طرف على الآخر في حالتي الاستمرار في العمل أو تركه؟
أولاً: العقد في اصطلاح الفقهاء يطلق على معنيين: المعنى العام، وهو كل ما يعقده -يعزمه- الشخص أن يفعله هو، أو يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه، كما يقول الجصاص، وعلى ذلك فيسمى البيع والنكاح وسائر عقود المعاوضات عقوداً؛لأن كل واحد من طرفي العقد ألزم نفسه الوفاء به…وأما المعنى الخاص فالعقد يطلق على ما ينشأ عن إرادتين لظهور أثره الشرعي في المحل، قال الجرجاني: العقد ربط أجزاء التصرف بالإيجاب والقبول. وبهذا المعنى عرفه الزركشي بقوله: ارتباط الإيجاب بالقبول الالتزامي كعقد البيع والنكاح وغيرهما] الموسوعة الفقهية الكويتية30/198-199.
ثانياً: الأصل في العقود أن تكون شفوية، فالإيجاب والقبول يقعان بالألفاظ، وهذا هو الأصل في انعقاد العقود عند جميع الفقهاء، وإذا تمَّ العقدُ شفوياً فقد أصبح عقداً ملزماً لطرفيه، لأن العقد لا يشترط لصحته الكتابة والتسجيل، وإن كان ذلك هو الأفضل والأولى، وخاصةً في زماننا، حيث خربت ذممُ كثيرٍ من الناس وقلَّ دينُهم وورعهم، وزاد طمعهم وجشعهم.
ثالثاً: أمر الله عز وجل بالكتابة والتوثيق والإشهاد في معاملات الناس وعقودهم، كما في آية الدين وهي أطول آية في القرآن الكريم، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [سورة البقرة الآيتان282-283]. قال ابن العربي المالكي: [قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} يريد أن يكون صكاً ليستذكر به عند أجله، لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل، والنسيان موكل بالإنسان، والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ فشُرِع الكتاب والإشهاد] أحكام القرآن1/247. ومما يرشد إلى مشروعية كتابة العقود وتوثيقها ما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه البخاري ومسلم). وقد روى الترمذي بإسناده عن عبد المجيد بن وهب قال: « » (رواه الترمذي وحسَّنه ورواه ابن ماجة ورواه البخاري تعليقاً، وقال الشيخ الألباني: حسن). وينبغي حملُ الناس في هذا الزمان على كتابة العقود وجوباً، قطعاً لأكل حقوق الآخرين بالباطل، وسداً لأبواب النزاع والخصومات، ولما نرى في مجتمعنا من نزاعٍ وشقاقٍ وخلافٍ بسبب عدم توثيق العقود والديون وعدم كتابتها، فكم من المنازعات حدثت بين المؤجر والمستأجر، بسبب عدم كتابة عقد الإجارة، وكم من خصوماتٍ حصلت بين الشركاء لاختلافهم في قضية ما، ويعود ذلك لعدم كتابة اتفاق الشراكة، وهكذا الحال في كل المعاملات التي لم توثق. لذا فإني أنصح كل متعاقدين في أيٍ من العقود الشرعية، أن يوثقا العقد بجميع شروطه وتفصيلاته الصغيرة قبل الكبيرة، قال الله تعالى: {ولا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}. قال ابن العربي المالكي: [هذا تأكيدٌ من الله تعالى في الإشهاد بالدَّين تنبيهاً لمن كسل فقال: هذا قليلٌ لا أحتاج إلى كتبه والإشهاد عليه، لأن أمر الله تعالى فيه والتحضيض عليه واحدٌ، والقليلُ والكثير في ذلك سواء] أحكام القرآن1/257. وينبغي أن يُعلمَ أن الاعتماد على عامل الثقة بين الناس، ليس مضموناً، لأن قلوب الناس متقلبة، وأحوالهم متغيرة، وقد يكون المتعاقدان متحابين وصديقين حميمين وقت العقد، ثم يقع بينهما من العداوة والبغضاء ما الله به عليم، فتضيع الحقوق. كما أن المعاملة التي لا تُكتب ولا يُستشهد عليها يترتب عليها مفاسدُ كثيرةٍ، منها ما يكون عن عمدٍ إذا كان أحد المتعاقدين ضعيف الأمانة فيدَّعي بعد طول الزمن خلاف الواقع، ومنها ما يكون عن خطأٍ ونسيانٍ، فإذا ارتاب المتعاقدان واختلفا ولا شيء يُرجع إليه في إزالة الريبة ورفع الخلاف من كتابة أو شهود أساء كل منهما الظن بالآخر، ولم يسهل عليه الرجوع عن اعتقاده إلى قول خصمه، فلجَّ خصامه وعدائه، وكان وراء ذلك من شرور المنازعات ما يرهقهما عسراً ويرميهما بأشد الحرج وربما ارتكبا في ذلك محارم كثيرة. تفسير المنار3/134 بتصرف.
رابعاً: العقد الشفوي الذي تمَّ بين الموزع والشركة هو عقدُ إجارة بشكلٍ عامٍ، وبالتحديد الإجارة الواردة على عمل الانسان أو عقد الأجير الخاص في الفقه الإسلامي، ومعلومٌ أن عقد الإجارة عقدٌ لازمٌ عند جماهير أهل العلم، ومعنى ذلك أن العقد إذا كان محدداً بمدةٍ معينةٍ كسنةٍ مثلاً، فلا يملك أحدُ الطرفين فسخه إلا عند انتهاء مدته، ومعلومٌ أن الوفاء بالعقد واجبٌ شرعيٌ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة الآية 1]، فهذه الآية الكريمة تأمر بالوفاء بالعقود، فالوفاء بالعقود فريضةٌ شرعيةٌ. قال الحسن البصري: [يعني بذلك عقود الدِّين، وهي ما عقده المرء على نفسه، من بيعٍ وشراءٍ وإجارةٍ وكراءٍ ومناكحةٍ وطلاقٍ ومزارعةٍ ومصالحةٍ وتمليكٍ وتخييرٍ وعتقٍ وتدبيرٍ وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غيرُ خارجٍ عن الشريعة، وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر، وما أشبه ذلك من طاعات ملة الاسلام] تفسير القرطبي6/32. وقال الزجاج: [المعنى أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقدكم مع بعضكم مع بعض] تفسير القرطبي6/33. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل العقلاء جميعاً] مجموع الفتاوى29/516. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/142).
خامساً: يجب الوفاء بمقتضى العقد الشفوي المتفق عليه بين الطرفين، والالتزام بما يترتب عليه في حق المتعاقدين، وعليه فإذا كان هنالك مدةٌ زمنيةٌ للعقد، كأن حُددت مدة العقد بسنة أو سنتين ونحو ذلك، فيجب الالتزام بذلك. والأصل المقرر عند الفقهاء أن عقد الإجارة لا بد أن يكون مؤقتاً بمدة زمنية معلومة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [الإجارة إذا وقعت على مدة يجب أن تكون معلومةً كشهرٍ وسنةٍ. ولا خلاف في هذا نعلمه، لأن المدة هي الضابطة للمعقود عليه، المعرِّفة له، فوجب أن تكون معلومة] المغني6/7. وإن لم تكن هنالك مدةٌ مضروبةٌ في العقد، ورغب أحد الطرفين في تغيير الاتفاق الشفوي، فله ذلك، والاتفاق على عقدٍ جديدٍ بعد الوفاء بجميع متطلبات العقد السابق -الاتفاق الشفوي- فإن اتفقا على العقد الجديد فبها ونعمت، وإن لم يتفقا، ينتهي التعاقد بينهما.
وخلاصة الأمر أن العقد يطلق على ما ينشأ عن إرادتين لظهور أثره الشرعي في المحل، فالعقد ارتباط الإيجاب بالقبول الالتزامي، وأن الإيجاب والقبول يقعان بالألفاظ، وهذا هو الأصل في انعقاد العقود عند جميع الفقهاء، وإذا تمَّ العقدُ شفوياً فقد أصبح عقداً ملزماً لطرفيه، والله عز وجل قد أمر بالكتابة والتوثيق والإشهاد في معاملات الناس وعقودهم، وينبغي حمل الناس في هذا الزمان على كتابة العقود وجوباً، قطعاً لأكل حقوق الآخرين بالباطل، وسداً لأبواب النزاع والخصومات، وأنه يجب الوفاء بمقتضى العقد الشفوي المتفق عليه بين الطرفين، والالتزام بما يترتب عليه في حق المتعاقدين، وأن الأصل المقرر عند الفقهاء أن عقد الإجارة لا بد أن يكون مؤقتاً بمدة زمنية معلومة، وإذا حُددت مدة زمنية للعقد فيجب الالتزام بذلك. وإن لم تكن هنالك مدةٌ مضروبةٌ في العقد، ورغب أحد الطرفين في تغيير الاتفاق الشفوي، فله ذلك، والاتفاق على عقدٍ جديدٍ بعد الوفاء بجميع متطلبات العقد السابق -الاتفاق الشفوي- فإن اتفقا على العقد الجديد فبها ونعمت، وإن لم يتفقا، ينتهي التعاقد بينهما. والله الهادي إلى سواء السبيل.