فتوى شاذةٌ تجيزُ رميَ الجمرات لليوم الثاني من أيام التشريق في الليلة السابقة

حسام الدين عفانه

  • التصنيفات: فقه الحج والعمرة -
السؤال:

يقول السائل إنه من حجاج هذا العام وقد أفتاهم أحدُ المرشدين بأن يرموا الجمرات في اليوم الأول من أيام التشريق الساعة العاشرة مساء ذلك اليوم، ورمي الجمرات لليوم الثاني من أيام التشريق بعد الساعة الثانية عشر مباشرةً، ومن ثمَّ يتعجلون بالخروج من منى، والذهاب إلى الحرم لطواف الوداع، فما الحكم الشرعي في ذلك؟

الإجابة:

الجواب فيه تفصيلٌ من عدة وُجوهٍ:

أولاً: إن الفتوى بمجردِ الرأي دون علمٍ، وبدون دليلٍ بابٌ من أبواب الضلالة، فالفتوى من أخطر الأمور وأشدِّها، لأنها في الحقيقة توقيعٌ عن ربِّ العالمين كما قال العالمون، وكثيرٌ من الذين يتصدرون للفتوى اليوم، لا يدركون خطورة شأن الفتوى، وما يجب أن يكون عليه المفتي من علمٍ وصدقٍ والتزامٍ بشرع الله. قال تعالى: {فاسْألُوا أهلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة النحل الآية43]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أهل الذكر هم أهل العلم" تفسير القرطبي10/108. وقال العلامة ابن القيم: [ولما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمدُ العلمَ بما يُبلغ، والصدقً فيه، لم تصلحْ مرتبةُ التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حَسَنَ الطريقة، مرضيَّ السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان مَنصِبُ التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكَرُ فضلُهُ، ولا يُجهل قدرُهُ، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيقٌ بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعدَّ له عُدَّته، وأن يتأهب له أُهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرجٌ من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصرُهُ وهاديه، وكيف وهو المنصبُ الذي تولاه بنفسه ربُّ الأرباب، فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [سورة النساء الآية127]، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالةً، إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [سورة النساء الآية176]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤولٌ غداً وموقـوفٌ بـين يـدي الله] إعلام الموقعين2/16-17.

ثانياً:إن الأصل في باب العبادات هو التوقيف أو الحظر كما يُعبر بعضُ أهل العلم، والمقصود هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بدون زيادةٍ ولا نقصان، فليس لأحدٍ مهما كان أن يزيد في العبادة شيئاً، ولا أن يُنقص منها شيئاً، وقد أمر الرسولُ صلى الله عليه وسلم في حديثين صحيحين مشهورين، بالالتزام بالعبادة كما فعلها هو عليه الصلاة والسلام، أولهما:قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (رواه البخاري)، فهذا الحديث الصحيح الصريح يقرر هذا الأصل وهو لزوم الاتباع في الصلاة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فنؤدي الصلاة كما وردت عن رسول صلى الله عليه وسلم بلا زيادةٍ ولا نقصانٍ. ثانيهما:قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» (رواه مسلم)، فهذان الحديثان يدلان على أن الأصل في العبادات هو التوقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يثبت شيءٌ من العبادات إلا بدليلٍ من الشرع، والحج منها، فهو عبادةٌ متلقاةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم للحديث السابق «خذوا عني مناسككم»، فلا يجوز لنا أن نخترع صفةً جديدةً في عبادة الحج ليست واردةً في الشرع، وليس عليها دليلٌ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بدَّ من الدليل لكل عملٍ من أعمال الحج. وقد نقل الإمام ابن العربي عن الزبير بن بكار قال: [سمعت مالك بن أنس وأتاه رجلٌ فقال:يا أبا عبد الله من أين أُحرم؟ قال:من ذي الحليفة من حيث أَحرمَ رسولُ صلى الله عليه وسلم. فقال:إني أُريد أن أُحرم من المسجد. فقال:لا تفعل. قال:فإني أُريد أن أُحرم من المسجد من عند القبر. قال:لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال:وأيُّ فتنةٍ هذه؟ إنما هي أميالٌ أزيدها. قال:وأيُّ فتنةٍ أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلةٍ قصَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}] الاعتصام للشاطبي1/132.

ثالثاً: اتفق العلماء على أن رمي الجمار واجبٌ من واجبات الحج. ويلزم بتركه دمٌ، ويبدأ وقتُ الرمي في اليوم الأول والثاني من أيام التشريق بعد زوال الشمس، ولا يجوز الرمي فيهما قبل الزوال عند جمهور العلماء، بما فيهم الأئمة الأربعة، ويجوز الرمي ليلاً عن اليوم السابق إلى ما قبل طلوع فجر اليوم الذي يليه. وقد أجاز جماعةٌ من الفقهاء الرميَ قبل الزوال، وقولهم مرجوحٌ، لما ثبت من رمي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الزوال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» (رواه مسلم). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [الحاجُّ يرمى الجمرات الثلاث أيام منى الثلاثة بعد الزوال، وهذا من العلم العام الذي تناقلته الأمةُ خلفاً عن سلفٍ عن نبيها صلى الله عليه وسلم] شرح العمدة في الفقه 3/557. وقال أكثر العلماء مَنْ رمى قبل الزوال فلا يصح رميُهُ، وعليه الإعادةُ، فإن لم يفعلْ لزمه دمٌ. وهو شاةٌ تُذبح في الحرم المكي وتوزع على فقرائه.

رابعاً: كلُّ الذين أجازوا الرميَ قبل الزوال، قالوا لا بدَّ أن يكون الرميُ بعد الفجر، ولم يقلْ أحدٌ منهم فيما أعلم بجواز الرمي قبل الفجر، قال الشيخ االعلامة ابن باز: [والرمي في الليل إنما يصح عن اليوم الذي غربت شمسُهُ، ولا يجزئ عن اليوم الذي بعده. وما ذكره العلامة ابن باز محلُّ اتفاقٍ بين العلماء في عدم جواز الرمي ليلاً عن اليوم التالي، وإنما يجوز عن اليوم السابق، وبناءً على ذلك فما فعله بعضُ الحجاج من الرمي ليلاً في اليوم الأول من أيام التشريق الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم، ورمي الجمرات لليوم الثاني من أيام التشريق بعد الساعة الثانية عشر مباشرةً، إنما يصح الرمي عن اليوم الحادي عشر فقط، ولا يجزئ عن اليوم الثاني عشر، وبذلك يكون هؤلاء الحجاج قد تركوا الرمي عن اليوم الثاني عشر، لأن وقت الرمي في أيام التشريق يبدأ بعد الفجر عند من قال بجواز الرمي قبل الزوال، وهو قولٌ مرجوحٌ كما أشرت. ويلزمهم دمٌ يُذبح في مكة المكرمة، لعدم صحة رمي الجمار عن اليوم الثاني عشر، لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «من ترك شيئاً من نسُكه أو نَسيه فعليه دمٌ» (رواه مالك والدار قطني والبيهقي). وعليه فإن تعجلَ هؤلاء الحجاج غير صحيح، فلا يجوز لأحدٍ أن يتعجل قبل رمي جمرات اليوم الثاني عشر، وبما أن هؤلاء الحجاج لم يرموا جمرات اليوم الثاني عشر في وقتها فتعجلُهم غير صحيح.

خامساً:ما قام به هؤلاء الحجاج من طواف الوداع قبل أن يكونوا قد رموا جمرات اليوم الثاني عشر، غير معتدٍ به شرعاً، لأن طواف الوداع باتفاق الفقهاء يكون بعد الانتهاء من جميع المناسك، فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أُمِرَ الناسُ أن يكون آخرَ عهدهم بالبيت إلا أنه خُفف عن المرأة الحائض» (رواه البخاري ومسلم). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:لا ينفرْ أحدٌ حتى يكونَ آخرُ عهده بالبيت» (رواه مسلم). وبما أن طواف الوداع وقع قبل رمي الجمرات في اليوم الثاني عشر، فهو غير صحيحٍ ويلزم بتركه دمٌ، لأن طواف الوداع واجبٌ على الراجح من أقوال أهل العلم.

سادساً:دعوى التيسير ورفع الحرج عن الحجاج التي يستند إليها بعض المفتين والمرشدين، الذين يقولون بهذه الفتاوى العرجاء، ليست صحيحة، لأن التيسير ورفع الحرج لا يكون إلا بالدليل، لأن الحجَّ عبادةٌ توقيفيةٌ كما ذكرت، ولو سألنا هؤلاء المفتين والمرشدين، ما الدليلُ على جواز رمي الجمرات لليوم الثاني من أيام التشريق في الليلة السابقة؟ لما أحروا جواباً، فلذلك فإن التيسير في أعمال الحج يكون حسبما شرعه الله عز وجل، وحسبما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكون حسب هذه الفتوى العرجاء بغير دليلٍ وإنما اتباعٌ للأهواء وخطبٌ لرضا العوام، وقد حذر العلماء قديماً وحديثاً من التساهل في الفتوى، قـال النووي: [يحرم التساهل في الفتوى، ومن عُرفَ به حَرُمَ استفتاؤه، فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسئول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يُحمل ما نُقل عن الماضين من مبادرة، ومن التساهل أن تحمله الأغراضُ الفاسدة، على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلباً للترخيص، لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، وأما من صح قصدُه فاحتسب في طلب حيلةٍ لا شبهة فيها للتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسنٌ جميلٌ، وعليه يُحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان- الثوري-: [إنما العلمُ عندنا الرخصةُ من ثقةٍ، فأما التشديدُ فيحسنُهُ كلُّ أحدٍ] المجموع1/46.

سابعاً:من أسباب الخلل الذي يقع فيه حجاجُ بلادنا في بعض مناسك الحج-كما في السؤال، وكما في ترك المبيت بمزدلفة والاكتفاء بالمرور بها قبل منتصف الليل، والإصرار المستمر على ترك المبيت في منى ليلة عرفة وهو من السنة-هو أن بعض شركات الحج تريد أن توفر من النفقات المالية على حساب أداء الحجاج للمناسك وفق السنة النبوية. ويضاف إلى ذلك جهلُ بعض المرشدين الذين ترسلهم وزارة الأوقاف، فهؤلاء يحتاجون إلى إرشاد، وينبغي أن يُعلم أن الحجَّ عبادةٌ عمليةٌ، ولا تكفي قراءةُ مناسك الحج من كتابٍ حتى يفقه الشخص الحج ويصير مرشداً، بل لا بد أن يكون المرشدُ قد حجَّ سابقاً، قبل أن يُسند إليه إرشاد الحجاج.  والواجب الشرعي يفرض على الأوقاف أن تضع حدَّاً لتلاعب بعض الشركات بحج الناس، وأن تؤهل المرشدين.

وخلاصة الأمر أن الفتوى من أخطر الأمور وأشدِّها، لأنها توقيعٌ عن رب العالمين، وأن الفتوى بمجردِ الرأي دون علمٍ، وبدون دليلٍ بابٌ من أبواب الضلالة، وأن الأصلَ في باب العبادات هو التوقيف أو الحظر، والحج عبادةٌ متلقاةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم للحديث «خذوا عني مناسككم» وأن رمي الجمار واجبٌ ويلزم بتركه دمٌ، ويبدأ وقته في اليوم الأول والثاني من أيام التشريق بعد زوال الشمس، ولا يجوز الرمي فيهما قبل الزوال على الراجح، وأن الرمي في الليل إنما يصح عن اليوم الذي غربت شمسُهُ، ولا يجزئ عن اليوم الذي بعده، وأن ما فعله بعض الحجاج من الرمي ليلاً في اليوم الأول من أيام التشريق الساعة العاشرة مساء، ورمي الجمرات لليوم الثاني من أيام التشريق بعد الساعة الثانية عشر مباشرةً، إنما يصح الرمي عن اليوم الحادي عشر فقط، ولا يجزئ عن اليوم الثاني عشر، ويلزمهم دمٌ يُذبح في مكة المكرمة، وأن طواف الوداع قبل رمي جمرات اليوم الثاني عشر، غير معتدٍ به شرعاً، ويلزم بتركه دمٌ أيضاً. والواجب الشرعي يفرضُ على الأوقاف أن تضع حدَّاً لتلاعب بعض الشركات بحج الناس، وأن تؤهل المرشدين.
والله الهادي إلى سواء السبيل.