الديمقراطية والشورى

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -
السؤال:

هل ما يُقام الآن في الانتخابات -من انتخاب المُرشَّح- نوعٌ من الشورى التي أوصى بها الإسلام؟ أم هي من صنيع الديمقراطيَّة؟
وهل للشعوب في الإسلام حقّ التَّرشيح والتَّصويت؟ أم يُترك لأهل الحل والرَّبط في البلد؛ أي: حكماءهم وعلماءهم؟
وما الذي يضمن لنا أنَّ هؤلاء النَّاس -الذين نعهد إليهم- مصلحون وذوو خبرة وعلم، بأن يَختاروا الأصلح؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإنَّ الانتخابات بصورتها الحاليَّة -سواء الموجودة في بلاد المسلمين أم في غيرها- ليست هي مبدأَ الشورى الإسلامي، وإنَّما هي من صنيع الديمقراطية، والتي تجعل المرجعيَّة للشعب.

فكلمة الديمقراطية مشتقة من كلمتين يونانيتين: Demos تعني الشعب، وkratos تعني السلطة، والعبارة تعني: "سلطة الشعب"، أو "حكم الشعب نفسه بما شاء"، ومفاد ذلك: إرضاء الشَّعب، ولو على حساب القيم والثوابت الدينيَّة.

وأسوأ ما في الديمقراطيَّة -بعد مخالفتها للشَّرع-: أنَّها صمِّمت بحيث لا يمكن أن تطبَّق على الجميع، بل لِمن يَملك شراء الأصوات، وبيْع الذِّمم، والاتِّجار في الأزمات بالشّعارات؛ فالتَّطبيق الديمقراطي لا يعدو أن يكون بيعًا للحُكم، وهذا ما دفع ونستون تشرشل -الزَّعيم البريطاني- إلى القوْل: "إنَّ الديمقراطيَّة هي أسوأ نظام يُمكن الأخذ به، ما لم يطبَّق على الجميع".

والحاصل، أنها نظام غرْبي ظهر على أثر طُغْيان الأباطرة، وإقرار الكنسيِّين لهذا الطغيان، فوُجد مَن يدعو إلى جعل الحكم بين الشعْب، ونزْعه من الأباطرة الكنسيِّين، وبهذا يدرك كلُّ أحدٍ أنَّ الديمقراطية تنافي الإسلام؛ فالحكم في الإسلام لله وحْدَه، وليس للشَّعب ولا للحاكم ولا للعلماء؛ قال الله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف: 26]، وقال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40]، وقال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا.

وأيضًا: من الفوارق الجوهرية بينهما أنَّ الشّورى الإسلاميَّة فيما لا نصَّ فيه، أو في تَحقيق المناط -تنزيل الحكم على حادثة معينة- بِخلاف الديمقراطيَّة، التي تعطي للشَّعب -ممثَّلاً في مجلس النوَّاب أو البرلمان- الحقَّ في التشْريع المطلق؛ فهي تُحِلُّ وتحرِّمُ وتبدِّل كيفما شاءت، وتتعدَّى على ثوابت الشَّريعة بالإلغاء، فحُكْم الشَّعب فوق كل شيء، وهذا لوْن من ألوان الشِّرك، فمعلوم قطعًا أنَّ التَّشريع المطلَق - تحريمًا وتحليلاً - إنَّما هو حقّ خالص لله تعالى؛ قال الله -تعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].

أمَّا الشّورى الإسلاميَّة، فأخذ رأْي ذوي الخبرة للتوصُّل إلى أقرب الأمور للحقّ، وأهل الشّورى -الذين هم أهل الحل والعقد- لهُم صفات معيَّنة، فهم نخب فكريَّة وعلميَّة وشرعيَّة، وليْسوا كنخب هذه الأيَّام، الذين هُم بين رجُل مغموص عليه النفاق، أو رجل يُجاهر الله بالعداء، أو ليبرالي محترِق، أو ماركسي ملحِد، أو ماجن منخرق، أو ما شابه.

ومشروعيَّة الشُّورى ثابتة بالكتاب والسنَّة وهدي الخلفاء الراشدين؛ قال الله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى: 38]، وقد ورد في السنَّة قول النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لأبي بكر وعمر: «لو أنَّكما تتَّفقان على أمر واحد ما عصيتُكما في مشورة أبدًا»؛ (رواه أحمد).

ومشورته -صلَّى الله عليه وسلَّم- لأصحابه في غزواته، وأخذ الجزية من أسرى بدْر أكثرُ من أن يحاط بها في تلك العجالة.

هذا؛ وفي نظام الديمقراطيَّة بعض المحاسن التي لا تُنكر، نراها في المجتمعات الغربيَّة، من منع استبداد الحكَّام، ومحاسبة المخطئ والظَّالم وغيرهما مهما كان منصبه، إلاَّ أنَّنا لسنا بحاجةٍ إليْها؛ فكلُّ ما هو حسن في الديمقراطيَّة -على قلَّته- فعندنا في الإسلام ما هو أحسن منه.

أمَّا حقّ الأمَّة في تولية حكَّامها ومحاسبتهم، وفي الرِّقابة عليهم وَفْقَ الضَّوابط الشرعيَّة - فهذا حقّ معلوم وظاهر في نصوص الشَّرع، من كتابٍ وسنَّة وهدْي القرون الخيريَّة، مَن راجع "تاريخ الاسلام"  للذَّهبي، أو "سير أعلام النبلاء"، أو كتاب "مواقف حاسمة للعلماء" - علِم صِدْق هذا القول، وكنت قد ذكرتُ نُبَذًا منها في مقال: "دعوة الفضائيات بين الهداية والغواية" لمن رام المزيد، والله أعلم.