ما توضيحكم لمسألة ”العذر بالجهل”؟

عبد المحسن بن عبد الله الزامل

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال:

أشكلت عليَّ كثيراً مسألة العذر بالجهل، فنرجو من فضيلتكم توضيح هذه المسألة وتبيين القول الراجح من ذلك.

 

الإجابة:

أهل العلم يكادون يتفقون على هذا الأصل وهو العذر بالجهل وإن كانوا يختلفون في تفاريعه، ومن أشهر المسائل في هذا العذر بالجهل من يجهل التوحيد، أمَّا المسائل الأخرى المتعلقة ببعض الأحكام خاصة في أبواب العبادات ونحوها، هذا لا إشكال فيها. وكأن السائل يقصد العذر بالجهل في باب التوحيد، وهذه المسألة تكلم عليها العلماء وبسط فيها الكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبعده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وكثيرون من أهل العلم من أئمة الدعوة وغيرهم رحمة الله عليهم  تكلموا في هذه المسألة، العذر بالجهل بمعنى أنه في حال جهله معذور، والله عزَّ وجلَّ يقول:  {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [سورة الإسراء:15]، وقال:  {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء: 165]، ويقول:  {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام 19]، وقال:  {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}  [سورة النمل: 44]، وقال: {لِتُبَيِّنَ} فهذا أيضاً لابد من البيان، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء بهذه الرسالة ووظيفته صلوات الله وسلامه البلاغ المبين، وكذلك في الحديث الصحيح في صحيح مسلم: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ..» (1)

هذا يبين أيضاً أن اليهودي والنصرانى تقوم عليه الحجة ببلوغه، بسماعها، قال:  «لَا يَسْمَعُ» ما قال مثلاً: لا يفهم، لا؛ لإنَّ اليهودي والنصراني يفهم ومدرك وعنده كتاب؛ ولهذا يعرف الحجة الرسالية بمجرد سماعه ما يحتاج أن يقول: أنا ما فهمت رسالتك، لا، هو يعرف، هو يفهم؛ لإنه آمن بنبي قبله وجاء بنفس الرسالة بهذا التوحيد؛ ولهذا إذا علم بهذا النبي المرسل فإنه يجب عليه أن يؤمن به؛ لأنهم يعلمون من هو هذا النبي وهو في كتبهم، فبمجرد السماع تقوم عليه الحجة.

وعلى هذا يقال إن من لم يسمع بالرسالة ولم يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن كان على أصل ومات على هذا الأصل فإن الله سبحانه وتعالى يقول:  {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}  [سورة فصلت: 46]، والله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً بل يقيم الحجة على عباده فمن مات على شيء من هذا فالله أعلم بحاله لو بلغته الرسالة. وقد ثبت في الأخبار عن النبي عليه الصلاة والسلام من عدة طرق من حديث الأسود بن سريع وهو أقواه عند أحمد (2)، ومن حديث معاذ بن جبل(3)، ومن حديث أنس،(4) عدة أحاديث ذكرها ابن القيم رحمه الله في آخر كتابه “طريق الهجرتين” وقال: إن هؤلاء هم أصحاب الفترة الذين يختبرون، فمن أطاع منهم كان من أهل الجنة، ومن عصى كان من أهل النار. فمن كان يهودياً او نصرانياً فمات على ذلك فإنه في الظاهر على حاله نعامله معاملة اليهودي والنصراني هذا هو الذي مات عليه، ولا ندري ما حاله لو أنه بلغته الرسالة، فإنه لم يؤمن بهذا النبي حتى نقول إنه مسلم معذور بالجهل. نقول هو جاهل، لكن لا نقول إنه مسلم. فإذا كنا لا نقول إنه مسلم من يهودي أو نصراني فإنه يعامل معاملة اليهود والنصاري في أنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه لا يدعي الإسلام ولم يقل بالإسلام، ولو بلغه الإسلام لا ندري ماذا يصنع هل يؤمن أو يكفر؟ أمَّا فيما بينه وبين ربه فالله سبحانه وتعالى يتولى أمره، أما الذي آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام وصدَّق به وآمن به ومات ووقع في شيء من الأمور المـُكفرة من شرك ونحوه، فهذا يدَّعي الإسلام وهو فيما يعتقد أنه على الإسلام وعلى الدين وعلى الحق فإذا كان جاهلاً بالحال وهو يظن أن هذا هو دين الله وهو شرع الله ووقع فيما وقع فيه جهلاً، ولم يبلغه أن هذا الذي وقع فيه شرك، أو أن الذي وقع فيه هذا ضلال ومات على ذلك وهو يعتقد أنه متبع للنبي عليه الصلاة والسلام وأنه على الحق وأن هذا هو الدين فالله سبحانه وتعالى يعامل عباده بما يعتقدونه ويظنون ويعذر هذا بما وقع فيه، هذا هو ما يؤخذ من كثير من كلام أهل العلم،

وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: ”أنتم معاشر الجهمية لا تكفرون عندي، يقصد عموم الجهمية، ولو اعتقدت ما تقولون لكفرت لأني أعلم أن ما أنتم عليه كفر وضلال”. يعني أن كثيراً مما عليه الجهمية كفر وضلال ومُصادم للسُنَّة ومصادم للأدلة فهو باطل وكفر بلا خلاف، لكن كثير من عامتهم وقع في مثل هذا ومع ذلك هو لا يكفرهم؛ لأن عامتهم يعتقدون أن هذا هو الحق،أما من قامت عليه الحجة هذا له حكم آخر، ومن ذلك أئمتهم والدعاة إلى هذه البدعة وإلى هذه الضلالة، وكذلك أيضاً من اقتدي بإنسان كان إمامه أو شيخه، إنسان من أهل الضلال وهو يعتقد فيه الدين وأنه على الحق ولم يتبين له مثل هذا الشيء، ويعتقد إن هذا هو دين الله وهو شرع الله، فهو معذور بجهله؛ وشيخ الإسلام كثيراً ما يذكر الحديث المشهور في الصحيحين من طرق (5)، ذلك الرجل الذي قال لأهله إذا أنا مت فاسحقوني وذروني.. الحديث وفيه ” فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحد من العالمين”، هذا أنكر العلم والقدرة، يعني أنه أنكر القدرة على إرجاعه كما كان، وأنكر البعث، قال:” فمات فغفر الله له”، كذلك الحديث الآخر لما قال:” اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح” (6) وكذلك قصة قدامة بن مظعون رضي الله عنه حينما تأول آية المائدة:  {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة المائدة الآية 93]، وقال:” إنا نشربها مع التقوى” (7) والقصة معروفة في هذا وأن عمر رضي الله عنه قام ليبين له، فإن أصر على هذا الشيء كفر بذلك ، فالمعنى أنهم لم يكفروا بمثل هذا لإنه تأول مع أن إنكاره تحريم الخمر كفر في الأصل، لكن الشخص المعين الذي ينكر هذا الشيء لا يقال إنه كفر حتى تقام عليه الحجة الشرعية التي تقوم على أمثاله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) أخرجه مسلم رقم (155).

(2) حديث الأسود بن سريع أخرجه أحمد في المسند (4 / 24) و الطبراني (79 / 2). ومن طريق أحمد رواه الضياء في ” المختارة ” (1 / 463) وصحيح ابن حبان (1827) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1434).

(3) حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ”يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا، وبالهالك في الفترة  ..الحديث”، أخرجه الطبراني في الكبير (رقم 158) والأوسط (رقم 7951) ومسند الشاميين (رقم 2205) وأبو نعيم في الحلية (5/127) من طريق عمرو بن واقد عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني عن معاذ به. وهذا سند ضعيف جدا، عمرو بن واقد متروك حديثه لايصلح للاعتبار.

(4) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” يؤتى يوم القيامة بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة… الحديث ” أخرجه البزار – الزوائد – (2177) وأبو يعلى في مسنده (رقم 4224 ) من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الوارث عن أنس به، وهذا سند ضعيف فيه ليث بن أبي سليم ، قال الحافظ في التقريب: اختلط جدا، ولم يتميز حديثه فترك أهـ .

(5) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ, فَلَمَّا حَضَرَهُ لمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي البَحْرِ؛ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا, قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ, فَقَالَ: لِلأَرْضِ أَدِّي مَا أَخَذْتِ, فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ, فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ. أَوْ قَالَ: مَخَافَتُكَ, فغفر لَهُ بِذَلِكَ” أخرجه البخاري رقم (3478)، ومسلم رقم (2756)، واللفظ له.

(6)أخرجه البخاري رقم (6309)، ومسلم رقم (2748). 

(7)  أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4620)،  ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2772(.