إقامة الجمعة في السجن.. رؤية شرعية

الشبكة الإسلامية

  • التصنيفات: فقه الصلاة - خطب الجمعة -
السؤال:

أرجو عرض المسألة التالية على أهل العلم في موقعكم المبارك لبيان الحكم الشرعي فيها:
كما تعلمون فإن كثيراً من أبناء الشعب الفلسطيني المسلم يزجون في سجون الاحتلال وكنت واحداً منهم 
وقد واجهتني معضلة شرعية ألا وهي تعدد صلاة الجمعة وكذا صلاة العيد في السجن الواحد فقد كنت مسجوناً في معتقل (عوفر) بالقرب من مدينة رام الله وهذا المعتقل قدرتُ مساحته بحوالي كيلومتر مربع وهو مقسم إلى عشرة أقسام متجاورة ويفصل بين القسم والآخر أسلاك شائكة متعددة عرضها أربعة أمتار تقريباً ويوجد حوالي ألف معتقل في هذا المعتقل يعني حوالي مئة معتقل في كل قسم منها وتقام صلاة الجمعة في كل قسم على انفراد وكذا صلاة العيد أي عشر جمع وعشر صلوات عيد.
وهنا مجموعة ملحوظات:
- لا يمكن من الناحية العملية إقامة جمعة واحدة لأن قوات الاحتلال لا تسمح بذلك.
- لا يمكن من الناحية العملية إقامة جمعتين لقسمين متجاورين لأن طبيعة أقسام السجن لا تسمح بجلوس المعتقلين من القسمين المتجاورين على جانبي الشبك الشائك.
- يرى المعتقلون وخاصة المشايخ منهم أنه لا بد من إقامة صلاة الجمعة وكذا صلاة العيد وإن تعددتا لما للصلوات من آثار نفسية كبيرة في نفوس المعتقلين ولا يخفى عليكم ما لصلاة الجمعة من دور في حياة المسلم وخاصة المعتقل.
- هذه الحالة تتكرر في جميع السجون والمعتقلات الصهيونية التي تضم أكثر من عشرة آلاف معتقل.
- ليس هنالك إلا خياران إما تعدد الجمعة أو القول بأن لا جمعة في السجون.
- كنت أميل إلى أنه لا جمعة على السجين حتى دخلت السجن ولمست بنفسي الأثر العظيم الذي تتركه صلاة الجمعة في نفوس المعتقلين وكذلك صلاة العيد وما يصحبها من التكبير الذي يرفع معنويات المعتقلين ... إلخ
أرجو التكرم بالجواب المفصل في هذه الواقعة حيث إن إخوانكم المعتقلين ينتظرون الجواب.
وجزاكم الله خير الجزاء.
 

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد: فقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في إقامة الجمعة في السجن إذا توفرت شروط الجمعة في المسجونين وأمكنهم أداؤها، فذهبت طائفة إلى صحة ذلك وهو ما نص عليه طائفة من الشافعية وهو ظاهر كلام الحنفية وابن حزم الظاهري، وقالوا : يقيمها لهم من يصلح لها منهم أو من أهل البلد، ويتجه وجوب نصبه على الحاكم، وروي عن ابن سيرينأنه كان يقول بالجمعة على أهل السجون، وخالفه إبراهيم النخعي فقال : ليس على أهل السجون جمعة.
وقد سئل العلامة ابن حجر الهيتمي في فتاويه الفقهية الكبرى: هل يلزم المحبوسين إقامة الجمعة في الحبس ؟
فأجاب بقوله : القياس أنه يلزمهم ذلك إذا وجدت شروط وجوب الجمعة وشروط صحتها ولم يُخشَ من إقامتها في الحبس فتنة؛ لكن أفتى غير واحد بأنها لا تلزمهم مطلقاً، وقد بالغالسبكي فقال : لا يجوز لهم إقامتها وإن جاز تعددها. وهو بعيد جداً وإن أطال الكلام فيه في فتاويه والاستدلال لعدم الوجوب بأن الحبوس لم تزل مشحونة من العلماء من السلف والخلف ولم ينقل أن أحداً منهم أقامها في الحبس يمكن الخدش فيه بأنه لا يتم إلا إن ثبت أنه وجد في حبس أربعون شافعياً ممن يعتد بفعلهم ولم يقيموها مع توفر ما ذكرناه من الشروط وعدم خوف الفتنة، فمن أثبت هذا اتضح له عدم الوجوب، ومن لم يثبته يلزمه أن يقول بالوجوب، فإن الذي يصرح به كلام أصحابنا.
ولقد كان البويطي وهو في قيوده في الحبس يغتسل ويلبس نظيف ثيابه ويأتي إلى باب السجن فيشاور السجان في صلاة الجمعة فيمنعه فيرجع ويقول: الآن سقطت الجمعة عني. فتأمل محافظة هذا الإمام - الذي هو أجَلُّ أصحاب الشافعي رضي الله عنه، ولذا استخلفه في حلقته وأخبره بهذه المحنة التي وقعت له بقوله له : ستموت في قيودك - على صلاة الجمعة ، مع ما هو عليه تجده كالصريح في أنه لو أمكنه إقامتها في الحبس لفعلها فيه. فإن قلت: إن أقاموها قبل جمعة البلد أفسدوها على أهلها أو بعدها لم تنعقد لهم، قلت: ممنوع فيهما؛ بل عذر الحبس لا يبعد أنه يجوز التعدد فيفعلونها متى شاءوا قبل أو بعد ولا حرج عليهم حينئذ.
وفي العناية شرح الهداية من كتب الحنفية: ويكره أن يصلي المعذورون الظهر بجماعة يوم الجمعة في المصر، وكذا أهل السجن. لما فيه من الإخلال بالجمعة إذ هي جامعة للجماعات، والمعذور قد يقتدي به غيره بخلاف أهل السواد لأنه لا جمعة عليهم (ولو صلى قوم أجزأهم) لاستجماع شرائطه.
وذهب آخرون إلى المنع ومن أحسنهم تقريراً لذلك الشيخ تقي الدين السبكي فقد سئل عن المسجونين بسجن الشرع وهم أكثر من أربعين هل يجوز لهم أن يقيموا من بينهم إماماً يخطب بهم ويصلي بهم الجمعة والأعياد ؟ (أجاب ) رحمه الله تعالى : لا يجوز لهم إقامة الجمعة في السجن بل يصلون ظهراً لأنه لم يبلغنا أن أحداً من السلف فعل ذلك مع أنه كان في السجون أقوام من العلماء المتورعين، والغالب أنه يجتمع معهم أربعون وأكثر موصوفون بصفات من تنعقد به الجمعة فلو كان ذلك جائزاً لفعلوه والسر في عدم جوازه أن المقصود من الجمعة إقامة الشعار ولذلك اختصت بمكان واحد من البلد إذا وسع الناس اتفاقاً، وكأنها من هذا الوجه تشبه فروض الكفايات، ومن جهة أنه يجب على كل مكلف بها إتيانها فهي فرض عين.
وقد نُقِل عن الشافعي رحمه الله قول إنها فرض كفاية وغلَّطوا قائله لما اشتهر أنها فرض عين، وعندي يمكن حمل ذلك النقل على ما أشرت إليه بأن فيها الأمرين جميعاً : (أحدهما) قصد إظهار الشعار وإقامتها في البلد الذي فيه أربعون وهذا فرض كفاية على كل مكلف في تلك البلد وعلى كل من حولها ممن يسمع النداء منها إذا كانوا دون الأربعين. (والثاني) وجوب حضورها وهو كل من كان من أهل الكمال من أهل ذلك البلد وممن حولها ممن يسمع النداء إذا لم يمكنه إقامة الجمعة في محله، وإذا عرفت أن المقصود بها ذلك والسجن ليس محل ظهور الشعار فلا تشرع إقامتها فيه ولعل ذلك لم يقمها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وأقامها أبو أمامة أسعد بن زرارة بالبقيع بقيع الحصمات من ظاهر المدينة، والظاهر أن ذلك كان بأمره صلى الله عليه وسلم، وإنما يأمر بها ولا يفعلها لما قلنا من المعنى. والسجن ليس محلاً لإقامتها لأمرين : ( أحدهما ) عدم ظهور الشعار (والثاني ) أنه تعطيل إقامتها في بقية البلد إذا كانت لا تحتمل جمعتين، وما عطل فرض الكفاية نمنع منه فعدم الجواز إذا كانت البلدة صغيرة لهاتين العلتين، وكل علة منهما كافية لهذا الحكم ولو أن أربعين اجتمعوا في بيت لا يظهر فيه الشعار وعجلوا بالخطبة وصلاة الجمعة قبل الجمعة التي تقام في البلد في الشعار الظاهر لم أر ذلك جائزاً لهم لما ذكرته من العلتين.
وإذا كانت البلدة كبيرة والجامع الذي لها لا يسع الناس وكانت بحيث تجوز إقامة جمعة أخرى فيها على ما ذكر الروياني وغيره من المتأخرين فأقام أهل السجن الجمعة أو أهل بيت لا يظهر فيه الشعار فأقول : إن ذلك لا يجوز أيضاً لإحدى العلتين وهي أنه ليس محل إقامة جمعة فهي غير شرعية، والإقدام على عبادة غير مشروعة لا يجوز، وقد ظهر أنه لا يجوز إقامة الجمعة في السجن سواء أضاق البلد أم أتسع، سواء أجوزنا جمعتين في بلد إذا ضاق أم لم نجوز، ولذلك لم نسمع بذلك عن أحد من السلف.
إذا عرف هذا فأهل السجن يصلون ظهرا، وهل يستحب لهم الجماعة ؟ وجهان : أصحهما نعم، وعلى هذا يستحب لهم إخفاؤها وجهان : أصحهما لا والنص أنه يستحب الإخفاء لأن الجماعة في هذا اليوم من شعار الجمعة وإن كان لا تهمه على هؤلاء، أما المعذورون الذين نخشى عليهم من التهم فيستحب لهم الإخفاء قطعاً وإنما يصلون الظهر بعد فراغ جمعة البلد . وأما العيد فيستحب لهم صلاته وأما خطبته ففي استحبابها نظر لما أشرت إليه من الشعار ولم أنظر فيه فيحتاج إلى كشف وتأمل، والله أعلم. كتب في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاين.
ومما لحظناه من معنى فرض الكفاية يظهر تحريم السفر على أحد القولين قبل الزوال المفوت للجمعة وإن كان وقتها لم يدخل بخلاف بقية الصلوات، وقد كنت أستشكل ذلك ولا أصغي لمن يقول : إن الجمعة متعلقة باليوم، وأقول كيف تجب الوسيلة قبل وجوب المقصد؟ حتى ظهر لي هذا المعنى وذلك أن إقامة شعار هذا اليوم بهذه الصلاة متعلق باليوم وإنما يتوقف على الزوال وجوب الصلاة وصحتها، ولهذا يستحب التبكير لها، ومسائل أخرى تتخرج على هذا. انتهى
والحاصل أن المسألة من مسائل الخلاف بين العلماء ولا يقطع فيها برأي واحد، ومن عمل بأحد الرأيين فهو على خير. فاختلاف العلماء رحمة واسعة واتفاقهم حجة قاطعة كما نص على ذلك ابن قدامة رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه القيم المغني، وإذا أخذتم بقول من يرى أن عليكم أن تصلوا الجمعة فلا حرج أن تصلي كل مجموعة لوحدها إذ لا يمكنكم أن تجتمعوا في مكان لما ذكرت.
نسأل الله تعالى أن يفك أسرى المسلمين جميعاً وأن يفرج هموم المحبوسين من المسلمين، وأن ينصر عباده الموحدين إنه القادر على ذلك.
والله أعلم.