حكم تعدد الجمعة في مسجد واحد

الشبكة الإسلامية

  • التصنيفات: فقه الصلاة - خطب الجمعة -
السؤال:

ما الحكم في إقامة صلاة الجمعة مرتين بإمامين مختلفين مع العلم أنه يوجد الكثير من الأماكن التي تقام فيها صلاة الجمعة فهل ضيق المكان أو غيره من الأسباب مسوغا لإعادة الجمعة في نفس المسجد مع العلم بوجود الخلاف بين الفقهاء رضي الله عنهم في مسألة تعدد الجمعة في البلد الواحد.
أرجو الإجابة المتأنية المدعمة بالأدلة وأقوال الفقهاء رضي الله عنهم ؟

الإجابة:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقبل الشروع في جواب السؤال نشير إلى مسألة تعدد الجمع في البلد الواحد لأنها كالأصل لهذه المسألة فنقول وبالله التوفيق: إحداث جمعتين في بلد واحد أمر غير معروف في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يأتي الجمعة من ذي الحليفة ماشياً، وكان سعد على رأس سبعة أميال أو ثمانية وكان أحياناً يأتيها وأحياناً لا يأتيها، وشهد أنس الجمعة من منزل وبينه وبين مكان إقامة الجمعة ميلان، وقال عطاء تؤتى الجمعة من سبعة أميال، وقال أبو هريرة تؤتى الجمعة من فرسخين أي ستة أميال، روى جميع هذه الآثار ابن أبي شيبة في مصنفه، وفيه وفي مصنف عبد الرزاق جملة من ذلك، تركنا ذكرها خشية الإطالة. وقال تقي الدين السبكي في فتاويه: والمقصود بالجمعة اجتماع المؤمنين كلهم، وموعظتهم، وأكمل وجوه ذلك أن يكون في مكان واحد لتجتمع كلمتهم، وتحصل الألفة بينهم، وقال: وفي الجمعة ثلاثة مقاصد: أحدها: ظهور الشعار، والثاني: الموعظة، والثالث: تأليف بعض المؤمنين ببعض لتراحمهم وتوادهم، ولما كانت هذه المقاصد الثلاثة من أحسن المقاصد، واستمر العمل عليها، وكان الاقتصار على جمعة واحدة أدعى إليها استمر العمل عليه، وعلم ذلك من دين الإسلام بالضرورة، وإن لم يأت في ذلك نص من الشارع بأمر ولا نهي، ولكن قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]. وقد أتانا فعله صلى الله عليه وسلم، وسنته، وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، ومن محاسن الإسلام اجتماع المؤمنين كل طائفة في مسجدهم في الصلوات الخمس، ثم اجتماع جميع أهل البلد في الجمعة، ثم اجتماع أهل البلد وما قرب منها من العوالي في العيدين لتحصل الألفة بينهم. ثم قال: وانقرض عصر الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك، وجاء التابعون فلم أعلم أحداً منهم تكلم في هذه المسِألة أيضاً، ولا قال بجواز جمعتين في بلد إلا رواية عبد الرازق عن ابن جريج قال: قلت: لعطاء: أرأيت أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر كيف يصنعون؟ قال: لكل قوم مسجد يجمعون فيه ثم يجزئ ذلك عنهم قال ابن جريج: وأنكر الناس أن يجمعوا إلا في المسجد الأكبر هذا لفظ عبد الرزاق في مصنفه، ثم قال الإمام تقي الدين السبكي: فالرجوع إلى قول سائر الناس مع الصحابة جميعهم أولى، ويصير مذهب عطاء في ذلك من المذاهب الشاذة التي لم يعلم بها الناس. وأما مذاهب العلماء في المسألة: فقال بعض الحنفية كما في بدائع الصنائع 1/ 262: الجمعة تجوز في موضعين في ظاهر الرواية وعليه الاعتماد، أنه تجوز في موضعين ولا تجوز في أكثر من ذلك فإنه روي عن علي رضي الله عنه، أنه كان يخرج إلى الجبانة في العيد ويستخلف في المصر من يصلي بضعفة الناس، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولما جاز هذا في صلاة العيد فكذا في صلاة الجمعة، لأنهما في اختصاصهما بالمصر سيان، ولأن الحرج يندفع، عند كثرة الزحام بموضعين غالباً، فلا يجوز أكثر من ذلك، وما روى عن محمد من الإطلاق في ثلاثة مواضع محمول على موضع الحاجة والضرورة. انتهى ولكن معتمد مذهب الحنفية هو ما ذكره ابن عابدين رحمه الله في رد المحتار 2 / 146 حيث قال: وتؤدى في مصر واحد بمواضع كثيرة مطلقاً على المذهب وعليه الفتوى. انتهى وبين رحمه الله أن ما في البدائع قول مرجوح في المذهب، وإن كان غير ضعيف فقال: جواز التعدد، وإن كان أرجح وأقوى دليلاً لكن فيه شبهة قوية، لأن خلافه مروي عن أبي حنيفة أيضاً، واختاره الطحاوي والتمرتاشي وصاحب المختار، وجعله العتابي الأظهر، وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن مالك، وإحدى الروايتين عن أحمد كما ذكره المقدسي في رسالته "نور الشمعة في ظهر الجمعة". انتهى ثم قال: فهو حينئذ قول معتمد في المذهب لا قول ضعيف. وبين ابن عابدين رحمه الله أن إعادة الظهر عند تعدد الجمع هي الأولى، احتياطاً للخروج من عهدة التكليف بيقين، ونسب ذلك إلى أكثر شراح الهداية وأكثر مشايخ بخارى. وقال المالكية كما في الشرح الكبير للدرديري 1/ 375: والجمعة للعتيق أي ما أقيمت فيه أولاً ولو تأخر بناؤه، وإن تأخر العتيق أداء بأن أقيمت فيهما، وفرغوا من صلاتها في الجديد قبل جماعة العتيق فيه في الجديد باطلة، ومحل بطلانها في الجديد ما لم يهجر العتيق، وما لم يحكم حاكم بصحتها في الجديد تبعاً لحكمه بصحة عتق عبد معين مثلاً علق على صحة الجمعة فيه، وما لم يحتاجوا للجديد لضيق العتيق، وعدم إمكان توسعته. ثم بين الدسوقي رحمه الله أن المقصود بضيق العتيق، الضيق الذي لا تمكن معه توسعته، وإلا فليس بضيق حقيقة، فقال في حاشيته 1/376: وحاصله أنه لا يتأتي الاحتياج للجديد لضيق العتيق، لأن العتيق إذا ضاق يوسع، ولو بالطريق والمقبرة، ويجبر الجار على البيع لتوسعته ولو وقفاً، ويمكن الجواب أن الكلام يفرض فيما لو كان العتيق بجوار بحر أو جبل فلا يمكن توسعته. انتهى وقال الشافعية كما في المجموع 4/454: والصحيح هو الوجه الأول وهو الجواز في موضعين وأكثر بحسب الحاجة وعسر الاجتماع قال إمام الحرمين: طرق الأصحاب متفقة على جواز الزيادة على جمعة ببغداد، واختلفوا في تعليله.. ثم قال النووي رحمه الله: وهذا الوجه هو الصحيح وبه قال أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزى قال الرافعي: واختاره أكثر أصحابنا تصريحاً وتعريضاً، وممن رجحه ابن كج والحناطي والقاضي أبو الطيب في كتابه المجرد، والروماني والغزالي، وآخرون، قال الماوردي: وهو اختيار المزني، ودليله قول تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. انتهى وعند تعدد الجمع يطلب الظهر وجوباً إن لم يجز التعدد. وقال الحنابلة كما في الإنصاف 2/401: لا يجوز إقامتها في أكثر من موضع واحد إذا لم يكن حاجة وهذا المذهب وعليه الأصحاب. وقال في كشاف القناع 2/26: ولا يكره لمن فاتته الجمعة صلاة ظهر جماعة، وكذا لو تعددت الجمعة. انتهى وبالجملة فمذهب المالكية والشافعية والحنابلة والرواية الراجحة عند الحنفية عدم جواز إقامة أكثر من جمعة لغير حاجة، وعلى ما ذكرت دلت نصوص الفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة، وعليه فإن اندفعت الحاجة بمسجدين أو ثلاثة أو أربعة حرم الزيادة على ذلك، وبطلت صلاة المتأخرين في إقامة الجمعة على مذهب الجمهور، وعليهم أن يعيدوا بدلاً عنها الظهر، وقال المالكية كما في حاشية الدسوقي1/375: بوجوب إعادتها للشك في السبق جمعة إن كان وقتها باقياً، وإلا ظهراً، والمتتبع لما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، وكلام الأئمة يجد اتفاقهم على أن للجمعة شأنا ليس لبقية الصلوات من حيث العدد، ومن حيث التعدد في إقامتها، وإن اختلفوا في بعض القيود، ولذا قال السبكي رحمه الله في فتوى له بعنوان "الاعتصام بالواحد الأحد من إقامة جمعتين في بلد" وهي فتوى أطال فيها النفس جاء فيها: وأما تخيل أن ذلك يجوز في كل المساجد عند عدم الحاجة، فهذا من المنكرات بالضرورة في دين الإسلام. وبذا يعلم أن ما عليه الحال في أكثر البلاد الإسلامية من تعدد الجمع بشكل مذهل بلا حاجة أمر غير سوي. وإذا كان كلام أهل العلم في منع إقامة جمعتين في بلد بلا حاجة، فكيف بإقامة جمعتين في مسجد واحد فهو أشد منعاً، ولا يعرف له أصل في الإسلام، ولذا فقد أفتت اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية بعدم جواز ذلك، وجاء في فتوى سابقة ما يلي: إنشاء جمعتين في مسجد واحد غير جائز شرعاً، ولا نعلم له أصلاً في دين الله، والأصل أن تقام جمعة واحدة في البلد الواحد، ولا تتعدد الجمع إلا لعذر شرعي كبعد مسافة على بعض من تجب عليهم أو يضيق المسجد الأول الذي تقام فيه عن استيعاب جميع المصلين أو نحو ذلك مما يصلح مسوغاً لإقامة الجمعة. انتهى والله أعلم.