الصدقة الجارية، والإسرار بالصدقة

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: فقه العبادات -
السؤال:

ورِثْتُ عن أبي عشَرة قراريط تقْريبًا، وتبرَّعتُ بنِصْف قيراط إلى الجمعيَّة الشَّرعية لكفالة الطِّفْل اليتيم، فهل هذا التَّبرُّع صدقة جارية لي أم لأبي - رحِمه الله؟

السؤال الثاني: هل أكون من الَّذين يظلُّهم الله تَحْت عرْشِه يوم القيامة، مع العِلْم: لا يعرف أحد عن هذا التبرُّع إلاَّ أعضاء الجمعيَّة، والمحامي الخاصّ بي، وأخي الكبير، على سبيل: من باب العلم - لو تُوفِّيت؟

أفيدوني أفادكم الله.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فجزاك الله خيرًا على ما تقومُ به من برٍّ وإحسان، ونسأل الله - تعالى - أن يتقبَّل منا ومنكَ صالح الأعمال.

أمَّا التبرُّع بنصف القيراط للجمعيَّة المذْكورة، فلو أمسكتَ أصْلَه، أو استعمَلْته في شيءٍ له أصْل يدوم الانتِفاع به، بحيث يبقى الأصل وتُنفق عوائدَه في أعمال الخير، أو تبْني عليه شيئًا من مشاريع الجمعية أو ما شابهَ - فهو من الصَّدقة الجارية؛ حيثُ إنَّ الصَّدقة الجارية عند الفُقَهاء تُطْلَق على الوقْف الَّذي يدوم الانتِفاع به، بحيثُ يبقَى أصلُه، ويُنْفَق من ريعه في مجالات الخير؛ لحديث ابن عمر - رضِي الله عنْهُما - قال: أصاب عمر أرضًا بِخيبر، فأتى النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ليستأْمِرَه فيها، فقال: يا رسولَ الله إنِّي أصبتُ أرضًا بِخيبر، لَم أُصِب مالاً قطُّ هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال:
«إن شِئْتَ حبستَ أصْلَها وتصدَّقت بها»؛ الحديث متَّفق عليْه.

قال العلماء: وهذا هو أصْل الوقف في الإسلام، وللمزيد راجع الفتوى: "
هل وضع (مبرد الماء) في الشارع يُعد صدقة جارية؟".

أمَّا إذا أنفقت الجمعيَّة أصل المال المتبرَّع به، فلا يكون ذلك من الصَّدقة الجارية؛ ولكنَّها صدقةٌ من الصَّدقات.

أمَّا هذه الصَّدقة، فتكون لأبيك إن كنت نويتَها عنه عند تصدُّقك بها وقصدتَه، فالصَّدقة تُقْبَل عن المتوفَّى وينتفع بها - إن شاء الله تعالى - بالنَّصِّ والإجماع؛ فعن عائشة - رضِي الله عنْهَا - أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ أمِّي افتلتت نفسها ولم توصِ، وأظنُّها لو تكلَّمت تصدَّقت، أفلها أجر إن تصدَّقت عنْها؟ قال:
«نعم، فتصدَّق عن أمِّك»؛ رواه البخاري ومسلم.

والأدلَّة في هذا الباب كثيرة، وقد أجْمع أهل العلم على أنَّ الصَّدقة والدُّعاء يصِل إلى الميت نفعُهُما، وممَّن نقل الإجْماع: النووي والشوكاني وغيرهما، وفي هذه الحال نرْجو لك الأجر الجزيل إن شاء الله تعالى، وهو أجر البِرِّ بأبيك.

ولكن إن لم تقصِد الوالدَ بتِلْك الصَّدقة، فهي صدقةٌ لك؛ لأنَّ المال صار مِلْكًا لك بالميراث الشَّرعي، وإن كان المأمول من الله - تعالى - أن يأْجُرَ الوالد عليْها؛ لأنَّه السَّبب في المال، وقد قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
«إنَّك أن تَذَر ورثتَك أغْنِياء خيرٌ من أن تَذَرَهم عالةً يتكفَّفون النَّاس، وإنَّك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلاَّ أُجِرْت بها، حتَّى ما تجعل في في امرأتِك»؛ متَّفق عليه.

أمَّا بالنسبة لجواب الشِّقِّ الثَّاني في السُّؤال، فكان من الأفْضل ألاَّ تُخْبِر أحدًا سوى أعْضاء الجمعيَّة؛ لأنَّ ذلك أبعدُ من الرِّياء، إلاَّ أن يكون في ذلك مصلحة؛ قال ابن قدامة في "المغني": "وصدقة السِّرِّ أفضل من صدقة العلانية؛ لقول الله تعالى: {
إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} [البقرة: 271].

ولِما روي في الصَّحيحين من قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
«سبعة يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه»، وذكر منهم: رجُلاً تصدَّق بصدقةٍ فأخْفاها؛ حتَّى لا تعلم شِماله ما تُنْفِق يَمينه". اهـ.

قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "فيه دلالة على أنَّ إسرار الصَّدقة أفضلُ من إظهارها؛ لأنَّه أبعد عن الرياء، إلاَّ أن يترتَّب على الإظهار مصلحة راجِحة، من اقتداء النَّاس به، فيكون أفضلَ من هذه الحيثية، وقال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
«الجاهِرُ بالقرآن كالجاهِرِ بالصَّدقة، والمسِرُّ بالقُرآن كالمسرِّ بالصَّدقة»، والأصل أنَّ الإسرار أفضل لهذه الآية". اهـ.

وحيث إنَّك لم تُخْبِر أحدًا سوى هؤلاء الأشْخاص، فاطلب منهم كتمانَ ذلك؛ عسى الله أن يَجعلَك فيمن يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه، وقد قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
«إنَّما الأعمال بالنِّيَّات»؛ متَّفق عليْه من حديث عُمَر بن الخطَّاب - رضِي الله عنْه،،

والله أعلم.