تفريق الحنابلة بين الواجب والركن في الصلاة

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: فقه الصلاة -
السؤال:

السَّلام عليكم ورحْمة الله وبركاته،

أودُّ أن أسأل: لماذا فرَّق الحنابلة بين الواجِب والرُّكن في الصَّلاة؟

مثلاً: التَّسليم قالوا: إنَّه ركن، مع أنَّه مأمور به، ولَم يُذْكَر في حديث المسيء صلاته.

وقالوا في التَّكبير والتَّسبيح: إنه واجب، مع أنَّه مأمور به، ولَم يُذْكَر في حديث المسيء صلاته.

ما الفرق؟ هل هناك قاعدة؟ أم أنَّ الأصحَّ قول الجمهور: أنَّ الصَّلاة أركان وسنن؟

بالله عليكم أرْجو التَّوضيح.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنَّ التَّسليم في الصَّلاة ركنٌ عند أكثر أهل العلم، من المالكيَّة والشافعيَّة، والحنابِلة والظَّاهريَّة، ولم يخالف إلا الحنفيَّة، واحتجُّوا بما ذكره السَّائل الكريم من أنَّه لم يرد في حديث المسيء في صلاته.

وأجاب الجمهور بأنَّ التَّسليم وإن لم يرِدْ في حديث المسيء؛ إلاَّ أنَّه قد صحَّ عن النَّبيِّ من غير وجه: أنَّه كان يسلِّم عن يَمينه وعن يساره، حتَّى يُرى بياض خدِّه، وكان يديم ذلك، ولم يخلّ به، وقد قال:
«صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»؛ رواه البخاري.

وأيضًا: فإنَّ قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حديث المسيء:
«فإذا فعلتَ ذلك، فقد تمَّت صلاتك» لا يعارض وجوب التَّسليم؛ لأنَّ معنى الحديث: فإذا فعلتَ ذلك، فقد تمَّت صلاتُك، وبقي عليكَ أن تتحلَّل من الصلاة بالتَّسليم؛ مثل قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم- لعرْوة بن مضرس  لما أتى النَّبيَّ بجمع - مزدلفة - وقال: جئت من جبل طيئ، أكللتُ مطيتى وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلاَّ وقفت عليه، فهل لي من حجٍّ؟ فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَن أدرك معنا هذه الصَّلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهارًا، فقد تمَّ حجُّه، وقضى تفثَه»؛ رواه أبو داود، ولم يذكر له - صلَّى الله عليه وسلَّم - التحلُّل من الحج، فلا يقال: إن التحلل من الحج ليس بواجب؛ لأن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – لم يذكره في حديث عرْوة بن مضرس، فما كان جوابًا للحنفية على هذا حديث عروة، فهو نفس جواب الجمهور على حديث المسيء.

وقد احتج الجمهور أيضًا: بما روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن عليٍّ مرفوعًا:
«مفتاح الصَّلاة الطهور، وتَحريمها التَّكبير، وتَحليلها التَّسليم»؛ صحَّحه الحافظ ابن حجر والألباني.

ودلالة هذا الحديث على فرضيَّة التَّسليم أقوى من دلالة حديث المسيء، لاسيَّما والتَّسليم في حديث المسيء مسكوتٌ عنْه، وليس منفيًّا.

أمَّا جعل الحنابلة والجمهور التَّسليم من أرْكان الصَّلاة - وهو يساوي الواجب وزيادة - وليس واجبًا فقط، فلأنَّ موجب حديث عليٍّ يُفيد ذلك؛ فقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
«تَحليلُها التَّسليم» أسلوب حصر وقصْر؛ يعني: أنه لا خروج من الصَّلاة إلاَّ به.

أمَّا إيجاب الحنابِلة لتكْبيرات الانتِقال والتَّسبيح، فقدِ احتجُّوا بأدلَّة كثيرة عامَّة وخاصَّة، ومن أقواها حديث المسيء في رواية أبي داود والنَّسائي، عن خلاد عن عمِّه: أنَّ رجُلاً دخل المسجد فذكر نحوه، قال فيه: فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
«إنَّه لا تتم صلاةٌ لأحدٍ من النَّاس حتَّى يتوضَّأ فيضع الوضوء»؛ يعني: مواضعه، «ثمَّ يكبر ويحمَد الله - جلَّ وعزَّ - ويُثْني عليه، ويقرأ بِما تيسَّر من القُرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثمَّ يركع حتَّى تطمئنَّ مفاصِله، ثمَّ يقول: سمع الله لمن حمده حتَّى يستوى قائمًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتَّى تطمئن مفاصله، ثمَّ يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتَّى يستوي قاعدًا، ثم يقول: الله أكبر، ثمَّ يسجد حتَّى تطمئنَّ مفاصله، ثمَّ يرْفع رأسَه فيكبِّر، فإذا فعل ذلك، فقد تمَّت صلاتُه»؛ وصحَّحه الألباني.

قال ابن دقيق العيد: "تكرَّر من الفقهاء الاستِدْلال بهذا الحديث على وجوب ما ذُكِر فيه، وعدم وجوب ما لم يذكر فيه، فأمَّا وجوب ما ذكر فيه، فلتعلُّق الأمر به، وأمَّا عدم وجوب غيرِه، فليْس ذلك بمجرَّد كون الأصل عدم الوجوب؛ بل لأمر زائدٍ على ذلك، وهو أنَّ الموضع موضع تعليم، وبيان للجاهل، وتعريف لواجبات الصلاة، وذلك يقتضي انْحِصار الواجبات فيما ذكر، ويقوِّي مرتبة الحصْر أنَّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ذكر ما تعلَّقت به الإساءة من هذا المصلِّي، وما لم يتعلَّق به إساءته من واجبات الصلاة، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يقصر المقْصود على ما وقعتْ به الإساءة فقط.

فإذا تقرَّر هذا، فكل موضع اختلف العُلماء في وجوبه، وكان مذْكورًا في هذا الحديث - فلنا أن نتمسَّك به في وجوبه، وكل موضع اختلفوا في عدم وجوبِه، ولم يكن مذكورًا في هذا الحديث - فلنا أن نتمسَّك به في عدم وجوبه؛ لكونه غيرَ مذكور، على ما تقدَّم من كونه موضع تعليم، ثم قال: إلاَّ أنَّ على طالب التَّحقيق ثلاثَ وظائف:


أحدُها: أن يجمع طرُق الحديث، ويُحْصي الأمور المذْكورة فيه، ويأخذ بالزَّائد فالزَّائد؛ فإنَّ الأخذ بالزائد واجب.

وثانيها: إذا أقام دليلاً على أحد الأمرين: إمَّا الوجوب أو عدم الوجوب، فالواجب العمل به؛ ما لَم يُعارِضْهُ ما هو أقوى، وهذا عند النَّفْي يجب التحرُّز فيه أكثر، فلينظر عند التَّعارُض أقوى الدَّليلين يعمل به، قال: وعندنا أنَّه إذا استدلَّ على عدم وجوب شيء بعدم ذكره في الحديث، وجاءت صيغة الأمر به في حديث آخر - فالمقدَّم صيغة الأمر، وإن كان يمكن أن يقال: الحديث دليل على عدم الوجوب، ويحمل صيغة الأمر على الندب، ثم ضعفه بأنَّه إنَّما يتم إذا كان عدم الذِّكْر في الرواية يدل على عدَم الذكر في نفس الأمر، وليس كذلك؛ فإنَّ عدم الذكر إنَّما يدل على عدم الوجوب، وهو غير عدم الذكر في نفس الأمر، فيقدَّم ما دلَّ على الوجوب؛ لأنَّه إثبات لزيادة يتعيَّن العمل بها". اهـ.

ولعلَّه بهذا البيان قد تبيَّن للسَّائل الكريم أنَّ أصول الحنابلة هي نفْس أصول الجمهور، أنَّ الصَّلاة لها أركان وواجبات ومستحبَّات، إلاَّ أنَّهم خالفوا الجمهور في مسألة واحدة، وافقَهُم عليها أبو محمد بنُ حزم في "المحلى"، وهي أنَّ مَن تعمَّد ترك الواجب فسدتْ صلاته، بخلاف من تركه سهوًا، ووافقوا الجمهور في أنَّ ترك الركن ولو سهوًا مفسد للرَّكعة،،

والله أعلم.