طروء الرِّياء على العمل بعد كماله
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: الشرك وأنواعه - التوبة -
أشكركم أوَّلاً على هذا الموقع الرائع، وجزى اللهُ كلَّ القائمين عليه خير الجزاء.
سؤالي الذي أودّ معرفة جوابِه أُعاني منه كثيرًا، ولم أجد جوابًا يُريحني ويَجعلُني أطمئنّ، أريدُ جوابًا وافيًا مقنعًا وبالأدلَّة الشَّرعيَّة.
أنا بفضل الله داعية إلى الله، وأقيم الدّروس والمحاضرات لمختلف الفئات: أطفال فتيات ونساء.
بعد كلّ درس أو محاضرة أُلقيها، أعيش معاناة وحزنًا لا يعلمه إلاَّ الله وحده؛ لأنَّ ردود أفعال النَّاس تؤثِّر فيَّ.
فإن سمعتُ الثناء والمدح حمِدت الله - عزَّ وجلَّ - لكنَّ العُجْب يتسلَّل لقلبي، وأجدني أتحدَّث عن نفسي وعن تأثير المحاضرة دون شعور لمن يَسألني عنْها، فأدخُل في بليَّة أخرى وهي الرّياء.
وبعد أن تنتهي لحظات النَّشوة الزَّائفة والمدْح والثناء، أشعُر بعدَها بالأسف والإحباط الشَّديد، وأبكي دمًا على هذه الدّروس والمحاضرات لأنَّها ذهبت هباءً منثورًا، وأتحسَّر على كلّ هذا الجهد لأنِّي أحبطتُه في لحظة واحدة، أو بسبَب كلمة، فأعلم حينها أنَّ رصيدي منها أصبح صفرًا؛ لذا أظلّ ألوم نفسي كثيرًا، وأعلم في قرارة نفسي أنَّه لا يُوجد لديَّ عمل واحد متقبَّل؛ لأنَّ هذا حالي دائمًا بعد كلِّ مُحاضرة.
ومع هذا أستمرّ في الإلقاء؛ لأنِّي أعلم أنَّ ترْك العبادة خوفًا من الرّياء هو من تلْبيس إبليس، وفي نفْس الوقْت أقول: ما الفائِدة إذا كنتُ أعلم أنَّه سيحبط بسبَب العُجْب والرِّياء؟
أستغفر الله وأتوب إليْه وأندم على ما بدر منِّي، لكن: ما الَّذي ينفعُه النَّدم وقد ذهب العمَل أدْراج الرِّياح؟!
لست أُسيء الظَّنَّ بالله، ولم أقطعِ الرَّجاء به يومًا، بل رجائي وظنِّي به كبير جدًّا، بل أشعُر كثيرًا أنَّه العمَل الوحيد الَّذي يمكن أن يدخلَني الجنَّة، كلّ ما في الأمْر أنِّي أُسيء الظَّنَّ بنفسي، ولم أعُد أرْجو منها خيرًا في هذا الشَّأْن، لا أنكر أني أفرح بسماع الثَّناء، لكن فرحي به ليس لِذاته، بل أودّ معرفة مدى الفائِدة والنَّتيجة ممَّا أقدِّمه حتَّى أستمرَّ في هذا المجال، لكن سماعه يؤثِّر في قلْبي كثيرًا وهذا ما لا أُريده.
فأريد أن أعرِف: إذا تاب العبد واستغْفر من العُجْب الذي أصابه في عملٍ ما، هل من المُمْكن أن يُصبح هذا العمل مقبولاً عند الله؟
لأنِّي دائمًا أسمع أنَّ الإعْجاب والرِّياء يُحبط العمل، وإذا حبط العمل فلا مجال لعودته من جديد.
فما هو الحلّ؟ وماذا أصنع؟
أشيروا عليَّ، انصحوني وطمْئِنوني.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فالرياء ضدّ الإخلاص، والإخلاص: أن تقصد بعملك وجه الله، أمَّا الرياء فمشتقٌّ من الرُّؤية، وهو أن يعمل العمل ليراه النَّاس، والسمعة مشتقَّة من السَّمع، وهو: أن يعمل العمل ليسمعَه النَّاس.
فإذا أحسن العبد القصْدَ ابتداء، وطرأت عليك بعض الخواطر لتفسدَ عليه نيَّته، فليعلمْ أنَّ هذا مدخل للشيطان ليقطعَه عن هذا العمل، وراجعي لزامًا الفتوى: "الرِّياء وحبوط العمل".
وأمَّا تحدُّثك عن نفسِك وعن الدُّروس، ومدى تأثُّر النَّاس بها، هل يدخل في باب الرياء؟
فنقول: إنَّ ذلك يتوقَّف على نيَّتك، فإن كنتِ قصدتِ به مُراءاةَ النَّاس ليمْدحوك بِمهارتِك وعلمِك، ويتحدَّثوا عنْك بذلك - فهو رياء.
وإن كنت قصدتِ به نشْر الخير وهداية النَّاس، وترْغيبهم في الحضور لتكوني عونًا لهم على الهِداية، ثمَّ وجدتِ منهم الثَّناء دون قصْد منك - فهذا ليْس من الرِّياء؛ بل هو أمرٌ مَحمود وعلامة خيرٍ لك.
قال الخادمي الحنفي في "بريقة محمودية": "وبالجُملة: الإخْفاء في العبادات الَّتي لا يلزم إظْهارُها ولم يسنّ - كما في بعض النسخ - أفضل من الإظهار؛ لخلوِّه عن احتمال الرياء، ويكون معاملة خاصَّة بينه وبين مولاه، إلاَّ عند التيقُّن، فلا يفيد الظَّنّ - فضْلاً عن الشَّكّ - بقصْد التعليم لِمن لا يعلم، والاقتِداء يشمل التعليم لمن يعلم ولكن لا يعمَل، فالإظْهار حينئذٍ أفضلُ لأنَّه عبادة متعدِّية، وفيه إيقاظ النَّائمين، وإرشاد الغافلين، وترْغيب للخير، فلا ينبغي أن يسدَّ باب إظهار العمل". اهـ.
أمَّا فرحك بسماع الثَّناء، فالظَّاهر أنه يدخُل - إن شاء الله - فيما روى أحمد والتِّرمذي عن عمر قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: « »؛ قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح، وصحَّحه الألباني.
فالسُّرور إذا كان لتوفيق الله - عزَّ وجلَّ - للعبد على إصلاحِ سريرته، وأنَّه سبحانه أظهر الجميلَ وستر القبيح، فكثيرٌ من النَّاس يفتضحون إذا ظهرت سرائرُهم؛ لأنَّها تكون قبائح أسرُّوها فيما بينهم وبين الله - تعالى - وإن حسنتْ ظواهرُهم، فيكون سرورُه على حُسْن الإيمان وعظيم توفيقِ الله - عزَّ وجلَّ - الَّذي لو ترك العبد لنفسه لهلك، وكلّ هذا مشروط بالبعْد عن عُجْب ورؤية النَّفس، أو المنّ به أوِ استِشْراف النَّفس لمن يعظِّمها، أو يطلب من النَّاس تعظيمه به، أو يُعادي مَن لا يعظِّمه عليْه ويرى أنَّه قد بخسه حقَّه، وأنه قد استهان بحرمته.
قال المناوي في "فيض القدير": "لأنَّه لا أحد يفعل ذلك إلاَّ لعلمِه بأنَّ له ربًّا، على حسناته مثيبًا وسيئاته مجازيًا، ومَن كان كذلك، فهو لتوحيد الله مخلصًا".
وروى مسلم عن أبي ذر - رضِي الله عنْه -: قيل: يا رسول الله، أرأيتَ الرجُل يعمل العمل من الخير ويحمَده الناس عليه؟ قال: « ».
وذكرَه الإمام النَّوويُّ في كتابه: "رياض الصالحين" وبوَّب عليْه: (بيان ما يتوهَّم أنَّه رياء، وليس هو رياء).
وقال النَّووي أيضًا في شرحه لصحيح مسلم: "قال العلماء: معناه: هذه البُشْرى المعجَّلة له بالخير، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنْه ومحبَّته له، فيحبّبه إلى الخلق - كما سبق في الحديث - ثمَّ يوضع له القبول في الأرض، هذا كلّه إذا حمده النَّاس من غير تعرُّض منه لحمدهم، وإلاَّ فالتعرُّض مذموم".
قال صاحب كتاب "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد": "فأمَّا إذا عمل العمل لله خالصًا ثمَّ ألقى الله له الثَّناء الحسن في قلوب المؤمنين، ففرح بفضْل الله ورحمتِه واستبْشر بذلِك - لَم يضرَّه". اهـ.
فظهر ممَّا تقدَّم أنَّ فرحَك بالعمل الصَّالح وبمدى انتِفاع النَّاس به: أنَّه لا ينافي الإخلاص والإيمان؛ فقد قال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
قال ابن قدامة في "مختصر منهاج القاصدين" (ص: 220): "وشوائب الرِّياء الخفيّ كثيرة لا تنحصر، ومتى أدْرك الإنسان من نفسِه تفرقة بين أن يُطَّلَع على عبادته أو لا يطَّلع، ففيه شعبة من الرياء، ولكن ليس كلّ شوب محبطًا للأجر ومفسدًا للعمل، بل فيه تفصيل؛ فإن قيل: فما ترى أحدًا ينفك عن السُّرور إذا عُرِفت طاعته، فهل جميع ذلك مذموم؟ فالجواب: أنَّ السّرور ينقسم إلى محمود ومذْموم، فالمحمود أن يكون قصْده إخفاء الطاعة والإخلاص لله، ولكن لمَّا اطَّلع عليه الخلق، علم أنَّ الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله، فيُسَرُّ بحسن صنع الله، ونظره له ولطفه به، حيث كان يستر الطَّاعة والمعصية، فأظهر الله عليه الطَّاعة وستر عليْه المعصية، ولا لطف أعْظم من ستر القبيح وإظهار الجميل، فيكون فرحه بذلك، لا بحمْد النَّاس وقيام المنزلة في قلوبهم، أو يستدلّ بإظهار الله الجميل وستر القبيح في الدنيا أنَّه كذلك يفعل به في الآخرة، فأمَّا إن كان فرحُه باطِّلاع النَّاس عليه؛ لقيام منزلته عندهم حتَّى يمدحوه ويعظموه ويقضوا حوائجه - فهذا مكروه مذموم". اهـ.
أمَّا مسألة طروء الرِّياء على العمل وإحباطه له، ثمَّ توبة العبد بعد ذلك، فقد أجاب عليْها وأزال حجبها الكثيفة أبو عبدالله ابن القيم في كتابه "الوابل الصيّب من الكلم الطيب" فقال:
"ولم يزل في نفسي من هذه المسألة، ولم أزَل حريصًا على الصَّواب فيها، وما رأيتُ أحدًا شفى فيها، والَّذي يظهر - والله تعالى أعلم، وبه المستعان ولا قوَّة إلاَّ به - أنَّ الحسنات والسيِّئات تتدافَع وتتقابل، ويكون الحكم فيها للغالِب وهو يقْهر المغلوبين، ويكون الحكم له حتَّى كأنَّ المغلوب لم يكن، فإذا غلبتْ على العبد الحسنات، رفعتْ حسناتُه الكثيرة سيِّئاته، ومتَى تاب من السيِّئة، ترتَّبت على توبته منها حسناتٌ كثيرة، قد تُرْبي وتزيد على الحسنة الَّتي حبطت بالسيِّئة، فإذا عزمت التَّوبة وصحَّت ونشأت من صميم القلْب، أحرقتْ ما مرَّت عليه من السيِّئات حتَّى كأنَّها لم تكن؛ فإنَّ التَّائب من الذَّنب لا ذنب له.
وقد سأل حكيمُ بن حزام - رضي الله عنْه - النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن عتاقة وصلة وبرٍّ فعلَه في الشِّرك: هل يثاب عليه؟ فقال النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: « »، فهذا يقتضي أنَّ الإسلام أعاد عليه ثوابَ تلك الحسنات التي كانتْ باطلة بالشِّرْك، فلمَّا تاب من الشِّرك عاد إليه ثواب حسناتِه المتقدِّمة، فهكذا إذا تاب العبْد توبة نصوحًا صادقة خالصة، أحْرقت ما كان قبلها من السيِّئات، وأعادت عليه ثواب حسناته، يوضِّح هذا أنَّ السيئات هي أمراض قلبيَّة كما أنَّ الحمَّى والأوجاع أمراض بدنيَّة، والمريض إذا عوفي من مرضِه عافية تامَّة، عادت إليه قوَّته وأفضل منْها، حتَّى كأنَّه لم يضعف قطّ، فالقوَّة المتقدِّمة بمنزلة الحسنات، والمرض بمنزلة الذنوب، والصّحَّة والعافية بمنزلة التَّوبة، وكما أنَّ المريض مَن لا تعود إليْه صحَّتُه أبدًا لضعْف عافيتِه، ومنهم مَن تعود صحَّته كما كانتْ لتقاوم الأسباب وتدافعها، ويعود البدَن إلى كماله الأوَّل، ومنهم مَن يعود أصحَّ ممَّا كان وأقْوى وأنشَط؛ لقوَّة أسباب العافية وقهْرها وغلبتها لأسباب الضَّعف والمرض، حتَّى ربَّما كان مرض هذا سببًا لعافيته؛ كما قال الشاعر:
لَعَلَّ عُتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُـهُ وَرُبَّمَا صَحَّتِ الأَجْسَامُ بِالعِلَلِ
فهكذا العبْد بعد التَّوبة على هذه المنازل الثَّلاث، والله الموفّق لا إلهَ غيره، ولا ربَّ سواه". اهـ.
هذا؛ ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثرُ من أن تحصر، وحفظ العمل مما يُفسده ويحبطه أصعب من العمل، فالرِّياء وإن دقَّ يحبط العمل، وأبوابه لا تحصر كثرة؛ ومن ثَمَّ فالواجب على من نصح نفسه وأراد لها النَّجاة غدًا: أن يصدق اللَّجأ إلى الله، طارحًا نفسَه بين يديه، مستغيثًا متضرِّعًا متذلِّلا مستكينًا، فحينها يكون العبد قد قرع باب التَّوفيق وولِجه، إن شاء الله تعالى،،
والله أعلم.