حكم من نوى صيام الفرض بعد ما أصبح

عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  • التصنيفات: فقه الصيام -
السؤال:

فضيلة الشيخ، كيف يمكن الجمع بين قول علمائنا ـ رحمهم الله ـ بقولهم من بلغه دخول شهر رمضان بعد ما أصبح يمسك ويقضي يومًا مكانه. بدليل ما أورده الموفق رحمه الله ـ في المغني في المسألة؛ ولأدلة مسألة رقم 485 صفحة 333 جـ 4 تحقيق الشيخ عبد الله التركي والشيخ عبد الفتاح الحلو وبين الأدلة على أن مَنْ بلغه دخول شهر رمضان بعدما أصبح فأمسك بقية يومه لا يلزمه صيام يوم مكانه.

 

جاء في حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديًا ينادي بالناس- وذلك يوم عاشوراء- لما كان فرضًا، وبلغهم الصيام وسط النهار "أن مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صومه، أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل" قالالعيني في شرح البخاري احتج أصحابنا بهذا الحديث وحديث الباب على صحة صيام من لم ينوِ الصيام من الليل، سواء كان في رمضان أو غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصيام أثناء النهار. وثبت عن عائشة وعبد الله بن مسعود وابن عمر وجابر أن صوم يوم عاشوراء كان فرضًا قبل أن يفرض رمضان.

وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى قرى الأنصار التي حول المدينة وقال: "من أصبح صائمًا فَلْيُتِمَّ صومه، ومن كان أصبح مفطرًا فَلْيَصُمْ بقية يومه" وهذا الحديث متفق عليه، وكان الصوم متعينًا، ولم يأمرهم بالقضاء.

وقال الحافظ أبو جعفر الطحاوي في هذه الأحاديث دليل على أنه من كان عليه صوم يوم بعينه ولم يكن نوى الصيام من الليل تجزؤه النية بعدما أصبح ، والأمر بالصوم أمر بالنية؛ إذ لا صوم إلا بنية. عمدة القارئ ج10 ص 302. انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات: إذا ثبت رؤية هلال رمضان أثناء النهار، فإنه يُتِمُّ بقية يومه، ولا يلزمه القضاء، وإن كان قد أَكَلَ. صفحة 193 انتهى. وقال شيخ الإسلام في الفتاوى ج25 ص 109: إذا ثبتت رؤية هلال رمضان في أثناء يوم قبل الأكل أو بعده أتموا وأمسكوا، ولا قضاء عليهم، كما لو بلغ الصبي وأفاق المجنون على أصح الأقوال الثلاثة. انتهى.

وقال إمام السنة أحمد بن محمد بن حنبل وإسحاق ومالك إذا نوى صيام جميع الشهر كفاه. وقال زفر وعطاءومجاهد يصح صوم المقيم في رمضان بغير نية. واحتج نفر بأنه لا يصح صوم في رمضان إلا أيام رمضان لِتَعَيُّنِهِ، فلا يفتقر إلى نية؛ لأن الزمن معيار له، فلا يُتَصَوَّرُ صيام في يوم واحد إلا صيام واحد. فتح الباري ج4 ص 142. انتهى.

أرجو من فضيلتكم إفادتي بأي الأدلة أصح وأسعد بالدليل؟

 

 

الإجابة:

لا شك أن الله تعالى أوجب صيام شهر رمضان كاملًا بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى قوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فظاهر هذه الآيات وجوب صوم شهر رمضان كله، ومن المعلوم أن الصيام لا يصح إلا بنية لحديث حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  {من لم يُبَيِّت الصيام من الليل فلا صيام له} وخص العلماء هذا الحديث بصيام الفرض، فهو الذي لا شك أن يُبَيِّتَهُ من الليل، أي: يعقد النية على الصوم قبل أن يُصبح ولو بقليل، ورخصوا في النفل أن ينويه في النهار، بشرط ألا يكون أَكَلَ أو شَرِبَ بعد الصباح. واشترطوا أن تكون النية قبل الزوال لحديث عائشة قالت: «دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل عندكم طعام؟ قلنا: لا، فقال: فإني إذًا صائم» فكان هذا نفلًا. وقد أوجب العلماء إمساك نهار رمضان، مع قضاء ذلك اليوم في عدة حالات منها:

إذا قدم المُسافر مفطرًا أمسك بقية نهاره، مع أنه سوف يقضيه؛ لأن الله تعالى ما أباح الإفطار إلا بقوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} وقد انقضى السفر، فيمسك لحرمة الشهر، وزوال العذر. ومنها: إذا برأ المريض نهارًا أمسك بقية يومه وقضاه، لزوال العذر الذي أبيح له الفطر. ومنها: إذا طهرت الحائض أو النُفساء أمسكت بقية يومها، مع وجوب قضائه حتى يتم صيام الشهر كاملًا.

فأما قصة صوم يوم عاشوراء فقد عُلم أنه ما فُرض إلا في السنة الثانية من الهجرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في ربيع الأول من السنة الأولى من الهجرة، ولما كان في أول السنة الثانية ورأى اليهود يصومونه قال: «نحن أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه» وكان قد فُرض في ذلك اليوم الذي بعث فيه من يُنادي الناس أن يمسكوا بقية يومهم، أو يكملوا صيامهم. وهكذا شأن من لم يعلم بالفرض إلا في أثناء النهار، فلا يكون في هذا دليلٌ على إسقاط القضاء عن المُسلم الذي يعتقد وجوب صيام شهر رمضان كاملًا، وأفطر جزءًا من اليوم الأول، فإنه يلزمه قضاؤه حتى يُكمل الشهر. فالعلم بفرض شهر رمضان معلوم من الدين بالضرورة، أما من لم يعلم بذلك فإنه لا يجب عليه إلا بعد علمه، ولهذا مَنْ أسلم في أثناء رمضان كوفد ثقيف يُؤمر بإمساك ذلك اليوم، وصيام بقية الشهر، ولا يُأْمَرُ بقضاء أول الشهر الذي لم يلتزم به قبل إسلامه، أو لم يجب عليه. وهكذا لو بلغ الصبي في أثناء النهار، أو أفاق المجنون أثناء النهار، فإنه يُمسك بقية يومه، وبقية شهره، ولا يُؤْمر بالقضاء؛ لأنه قبل ذلك غير مُكَلَّف كما ذكر ذلك شيخ الإسلام.

وقد تساهل الحنفية ومنهم العيني في شرح البخاري والطحاوي في الاستدلال بأحاديث يوم عاشوراء على فرض رمضان، للفرق الظاهر بين حالنا وحال الصحابة الذين لم يبلغهم فرض يوم عاشوراء إلا في ذلك النهار، وغفل العيني على الاستدلال بقصة وفد ثقيف وغيرهم، فإنها تدل على أن الفرض إنما يجب بعد العلم به، ولم يكن صوم يوم عاشوراء معروفًا عندهم، ولا واجبًا قبل تلك الساعة التي بلغهم النداء فيها.

وأما النية في شهر رمضان فما ذكره مالك وأحمد وإسحاق أن من نوى صيام جميع الشهر كفاه، وأنه يصح صوم المقيم في رمضان، ولا يصح في رمضان أن يصوم تَطَوُّعًا أو قضاءً غير أيام رمضان، لأن الزمن معيار له، فلا يُتصور صيام في يوم واحد في غير ذلك اليوم. وهذا صحيح؛ وذلك لأن المسلمين عازمون على صيام الشهر كله. ولو قيل لأحدهم: أتفطر في هذا اليوم أو غدًا بدون عذر؟ لأنكر بشدة على من قال ذلك له مما يدل على أنه عازم على إكمال الشهر. وأما ما ذكره شيخ الإسلام في الاختيارات وفي الفتاوى فهو من اجتهاداته -رحمه الله- ومن تساهله، وقد خالف في ذلك أقوال العلماء في مذهب أحمد وغيره، وقد سُئل شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله ـ عن هذا القول، فذكر: أنه اجتهاد خاطئ، وقول شاذ، ولو صدر من هذا الإمام، فليس كل مُجتهد بمصيب، والله أعلم.