صلة الرحم إذا غضبت بقية الأرحام

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: التقوى وحب الله - الحث على الطاعات - النهي عن البدع والمنكرات -
السؤال:

ليْكم حيرتي في هذا، وأسأل الله أن ينيرَني بكم.

لا يَجهل جاهل فضْل صلة الرَّحم وحكم قطْعها، ولو سألْنا أي شخصٍ عن استِدلال لَسَرَد عليْنا آيات وأحاديث كثيرة، ومع ذلك كلِّه نرى القطيعة متجلِّية ظاهرة بينة، مع بيان حكمِها، أعرف قولَه تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22، 23]، وأعرف قولَه - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «لا يدخُل الجنَّة قاطِع رحِم».

لكن سؤالي وحيرتي في: إذا كان يترتَّب على الوصْل قطع آخر؛ أي: إذا وصلت عمًّا غضب خال، أو إذا وصلت عمًّا غضبتْ أم وأخت، هل تقطع مفسدة بأخرى؟ أم هو واجب نؤدِّيه ولا نطيع في أمر الله أحدًا؟

أنيروني أنارَكم الله، إنّي في حيرة، وجزاكم الله خيرًا.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فمن المقرَّر شرعًا: أنَّ المسلم إذا قام بما فرضه الله عليْه من صِلة الرَّحم، فهو مُحسن محمود، مستحقّ للثَّواب، فإذا ترتَّب على تلك الصِّلة غضب أمٍّ أو أخت أو غيرِهما، فلا يلتفت لغضبِهما؛ فهو غضب في غيرِ موضعِه، فهو هدر، وعلى العاقِل اللَّبيب إيثار رضا الله، والفِرار من غضبِه - سبحانه - وعدم الالتِفاف لغضَب البشَر، وقد بيَّن لنا رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - مواضع الطَّاعة: «إنَّما الطَّاعة في المعروف»؛ متَّفق عليه، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «السَّمعُ والطَّاعة على المرء المسلم فيما أَحَبَّ وكَرِهَ، ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمعَ ولا طاعةَ»؛ متفق عليه من حديثِ ابن عمر، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق»؛ رواه أحمد وصحَّحه الألباني.

قال القُرطبي عند تفسير قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15]: "وجُملة هذا الباب: أنَّ طاعة الأبويْن لا تراعى في ارتِكاب كبيرة، ولا في ترْك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتُهما في المباحات".

وقال الشيخ العثيمين في لقاءات الباب المفتوح: "الذين يَغضبون على أولادِهم أو على أقاربِهم، إذا وصلوا أرْحامهم، ونقول لهؤلاء الَّذين يغضبون من صِلة الرَّحم: إنَّهم مضادّون لله - عزَّ وجلَّ - محادّون له، كيف؟ أليْس الله أمر بصِلة الرَّحم، وإذا أمر بها فقد رضِيها؟! وهؤلاء لا يرضَون بما يرضى الله، ولا يأمُرون بما أمر الله؛ بل ينهَون عمَّا أمر الله، فيكون فيهم صفة وخصلة من خصال المنافقين، ماذا قال الله في خصال المنافقين؟ {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ} [التَّوبة: 67]، هؤلاء يأمرون بقطيعة الرَّحِم وينهَون عن صِلَتها، وهذه خصلة من خصال المنافقين.

فأوجِّه كلِمتي هذه إلى هؤلاء: أن يتوبوا إلى ربِّهم، وألاَّ يُخالفوا الله - عزَّ وجلَّ - في أمره، وألا يرضَوا ما يكرهه الله، ويكرهوا ما رضِيه الله، قبل أن يموتوا على هذه الحال؛ وقد قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22، 23]، ويدلّ على أنَّ الله أعْمى أبصارَ هؤلاء؛ أنَّهم لا يرضَون ما رضِيه الله، ولا يأمُرون بما أمره الله؛ بل يكْرهون ما رضِيه الله، وينهَون عمَّا أمر الله، هذا من عَمى الأبصار، أمَّا اللَّعنة فأمرُها إلى الله، لكنَّ الله وعدهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، صاروا لا يسْمعون الحقَّ ولا ينظرون إليه، ثمَّ إنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وعلى آلِه وسلَّم - قال: «لا يدخُل الجنَّة قاطع رحِم»، فهل يرضى هؤلاء أن يَموتوا على هذه الحال، ثمَّ لا يدخلون الجنَّة؟! هذا التَّوجيه الأوَّل بالنسبة لهؤلاء الَّذين لا يرضَون أن يصل الرجُل رحمه.

أمَّا بالنسبة للآخرين، وهو التَّوجيه الثَّاني، فإني أقول لهؤلاء الَّذين يقولون: إنَّ أبانا أو أخانا أو أمَّنا لا يرضى أن أصل رحمي، أقول: صِلْ رَحِمك وإن رَغِم أنفه؛ لأنَّك إذا وصلْتَ رحِمك، فقد أطعت ربَّك، وإذا لم تصِل رحِمك، فقد عصيت ربَّك، وهل يعصى الله بطاعة المخلوق، أو يُعْصى المخلوق بطاعة الله؟ يُعْصَى المخلوق بطاعة الله، فأقول: صِلْ رحِمك وإن لم يرغبوا، فإن قاطعوك فصِلْهم، وكما قال النَّبيُّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام - لرجُل أخبر أنَّه يصِل رحِمه ويقطعونه، ويحسِنُ إليْهم ويسيئون إليه، ويَحلم عليهِم ويغضبون عليه، فقال: «إن كنت كما تقول فكأنَّما تسفّهم الملّ» ، يعني: كأنَّك تجعل في أفواههم الرَّماد الحارّ". اهـ.

فأقول للأخ: صِل الرَّحم، سواء غضِب أبوك أم لم يغْضب، ثمَّ لا تدَّخر وسعًا أن تنصح والدَك، وتقول: يا أبتِ، هذا حرام عليْك، كيف تأمر بالمنكر وتنهَى عن المعروف، ثمَّ تطلبُ منْه وتنصحه أن يصل الرَّحِم هو؟! ولو غضب عليك، إبراهيم ماذا قال لأبيه؟ {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] إلى أن قال له أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِياًّ} [مريم:46].

وراجع على موقعنا الفتاويين:

 و"قطيعة الرحم"، و"حكم طاعة المرأة زوجها بترك صلة رحمها"،،

والله أعلم.