من اشتهى الذُّكور في الدنيا، هل يمتع بهم في الآخرة
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: الدار الآخرة - تزكية النفس - أعمال القلوب - النهي عن البدع والمنكرات -
بصراحة يُحيِّرني سؤال:
إني أشتهي الذُّكور الوسيمين (الشذوذ) ومع ذلك إنِّي - والله - أجاهِد نفسي ولا أرضى لها ذلك، ولا أنظر إلى ما حرَّم الله، وأرى في ذلِك فتنة وبلاء من الله عليَّ، وأنا صابِر لوجْه الله في سبيل مرضاتِه وتبعًا لرسوله، وأحتسِب الأجْر عند الله.
ولكن، هل إذا أدخلني الله الجنة وطلبتُ فيها ذكورًا يُعطيني؟
مع العلم أنِّي لا أشتهي الحور العين، ولا أريد مثلَهنَّ في الجنَّة مهْما كان فيهنَّ من وصْف، وكذلك الَّذي يشتهي الحور العِين لا يَطلب غيرَها، والله يقول: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، وما تَشْتهيه نفْسي هو الذُّكور.
مع العلم أنَّ الله حرَّم الخمر في الدُّنيا وحلَّلها في الجنَّة، وكذلك الكثير، وكل هذا وكرم الله الَّذي ليْس من بعده كرم.
وبصراحة أنا حُرِمْت من لذَّة الجِماع الحلال والشَّهوة، التي هي لدى الكثير، ولكن آمل بالله أن يُعطيني بالجنة.
وجزاكم الله خيرًا.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فالله - سبحانه - خلق عبادَه حنفاء كلَّهم، فأتتْهم الشَّياطين فاجتالتْهم عن دينهم؛ كما في الحديث القدسي الَّذي رواه مسلم عن عياض بن حمار، وفي "الصحيحَين" عن أبي هُرَيْرة - رضِي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30].
»، ثمَّ يقول أبو هُرَيْرة - رضِي الله عنْه -: {فالله فطر عبادَه الأسْوياء على النفْرة من الفواحش ما ظهرَ منْها وما بطن، ولَم يفطرْهم على ميْل الذَّكر للذَّكر؛ فالشُّذوذ ليس من ذات الموْلود، ولا مُقْتضى طبعه، وإنَّما يَحصل بسببٍ خارجيٍّ، إن سَلِمَ منْه، استمرَّ على اعتدالِه، وهو ميْل الذَّكر للأُنثى، والأُنْثى للذَّكر؛ ولهذا قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «
»؛ أي: يحرّفان ما فُطر عليه؛ يُبيِّنه ما في الرواية الأخرى: « ».فميل الذكر للأنثى والنفْرة عن الشذوذ، ثابتة بأصل الجِبِلَّة، فلو تُركَ المرءُ عليها لاستمرَّ على لزومها، ولم يُفارقْها إلى غرائزَ تأْباها النُّفوس الطَّاهرة، والفِطَر السَّليمة؛ قال القرطبي في "المُفْهِم": "إنَّ الله خلق قلوب بني آدم مؤهَّلة لقبول الحق، كما خلق أعيُنهم وأسماعهم قابلة للمرئيَّات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهليَّة، أدركت الحقَّ، ودين الإسلام هو الدين الحق".
وقوم لوط الذين فعلوا تلك الفاحشةٌ، كانوا يعْلمون قبحها قبل أن يَنهاهم نبيُّهم عنْها؛ ولهذا قال لهم: {أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ} [الأعراف: 80]، وقال: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَرَ} [العنكبوت: 29]، وقال: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ} [النمل: 55]، وهو خِطاب لِمن يعرِف قُبح ما يفعلُه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد واجههم بذمِّهم وتوْبيخهم على فعْل الفاحشة، ثمَّ إنَّ أهل الفاحشة توعَّدوهم وتهدَّدوهم بإخراجهم من القرية، وهذا حال أهل الفجور إذا كان بيْنهم من ينهاهم طلبوا نفْيَه وإخراجه، وقد عاقب الله أهل الفاحشة اللوطيَّة بما أرادوا أن يقصِدوا به أهل التَّقوى، وهو - سبحانه - أخرج المتَّقين من بينهم عند نزول العذاب".
أمَّا مَن انحرفت فطرته، وما جبله الله عليْه من خير، ويَحسب أنَّه أيضًا سينعم في الآخرة بما تَهواه نفسُه من انحراف عن جادَّة الفِطْرة إلى الشَّرِّ المحض - فهو من تزيين سوء العمل؛ قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]، وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، وهو من اتِّباع الهوى بغير هُدى من الله؛ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
قال شيخ الإسلام: "أمَّا صحْبة المرْدان على وجه الاختِصاص بأحدِهم - كما يفعلونه - مع ما ينضمُّ إلى ذلك من الخلوة بالأمرد الحسَن، ومبيته مع الرجُل، ونحو ذلِك - فهذا من أفْحَش المنكَرات عند المسلمين وعند اليهود والنَّصارى وغيرهم؛ فإنَّه قد عُلِم بالاضطِرار من دين الإسلام، ودين سائر الأُمَم بعد قوم لوط - تَحريمُ الفاحشة اللوطيَّة؛ ولهذا بيَّن الله في كتابه أنَّه لم يفعلْها قبل قوم لوط أحدٌ من العالمين، وقد عذَّب الله المستحلِّين لها بعذابٍ ما عذَّبه أحدًا من الأُمم، حيث طمس أبصارَهم وقلب مدائنَهم، فجعل عاليَها سافلَها وأتْبَعَهم بالحِجارة من السَّماء؛ ولهذا جاءت الشَّريعة بأنَّ الفاحشة الَّتي فيها القتْل يُقْتَل صاحبُها بالرَّجم بالحجارة، والرَّجم شرعه الله لأهل التَّوراة والقرآن، وفي السُّنن عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: « ».
ولهذا؛ اتَّفق الصَّحابة على قتلِهما جميعًا، لكن تنوَّعوا في صفة القتْل؛ فبعضُهم قال: يُرجم، وبعضُهم قال: يرمى من أعْلى جدار في القرْية ويتبع بالحجارة، وبعضهم قال: يُحْرق بالنَّار؛ ولهذا كان مذهب جمهور السَّلف والفُقهاء: أنَّهما يُرجمان، بكْرَين كانا أو ثيِّبَين، حرَّين كانا أو مملوكَين، أو كان أحدُهُما مملوكًا للآخَر، وقد اتَّفق المسلِمون على أنَّ من استحلَّها بمملوك أو غير مملوك، فهو كافرٌ مرتدّ، وكذلك مقدِّمات الفاحشة عند التلذُّذ بقبلة الأمرد ولمسِه والنَّظر إليْه، هو حرام باتِّفاق المسلمين".
إذا تقرَّر أنَّ الشذوذ انحراف عن الفطرة، ومعصية من أقْبح المعاصي، توجب قتل الفاعل والمفْعول بإجماع الصَّحابة، فمَن مات وفي قلبه ذلك الشُّذوذ، طهَّره الله منه، إما تفضلاً بغير عقاب، وإلا طهَّرتْه جهنَّم - أعاذنا الله وأحبابَنا منها - فتنفي خبثه وتصفِّيه من موادِّه الرَّديئة، كما تفعل نار الكير الَّتي تصفِّي جوهر الحديد، فأهْل الجنَّة يطهِّرهم الله من الخبائث النفسيَّة، والأخلاق الرديَّة، والرَّغبات الدنية؛ قال تعالى: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23]، وذلك كما يطهر الله – تعالى – أهل الجنة بقلع وإزالة الغِل الذي كان موجودًا في قلوبهم، والتنافس الذي بينهم، حتى يكونوا إخوانًا متحابين، وأخلاء متصافين؛ قال – تعالى -: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا} [الأعراف: 43].
قال ابن القيم في "الوابل الصيّب":
"أن تكون له - المسلم - ذنوبٌ وخطايا وأوْزار لَم يذهب عنْه أثرُها في هذه الدَّار بالتَّوبة والاستِغْفار، فإنَّه يحبس عن الجنَّة حتَّى يتطهَّر منها، وإن لم يطهِّره الموقِف وأهواله وشدائدُه، فلا بدَّ من دخول النَّار؛ ليخرج خبثه فيها، ويتطهَّر من درنه ووسخِه، ثمَّ يخرج منها، فيدخل الجنَّة؛ فإنَّها دار الطَّيِّبين، لا يدخلها إلاَّ طيِّب؛ قال - سبحانه وتعالى -: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ} [النحل: 32]، وقال تعالى: {وَسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، فعقَّب دخولها على الطيب بحرف الفاء، الذي يؤْذِن بأنَّه سبب للدخول؛ أي: بسبب طيبكم قيل لكم: ادخلوها". ا هـ.
فلتحرص يا أخي على كل ما من شأنه أن يزيد ويقوي إيمانكَ؛ فكلما ازداد إيمانك صلابة، كلما طاشت وتلاشت واضمحلت فتن الشهوات من قلبك؛
قال ابن القيم في "مدارج السَّالكين":
"اعلم أنَّ أشعَّة "لا إله إلاَّ الله" تبدِّد من ضباب الذنوب وغيومها بقدْر قوَّة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوُت أهلها في ذلك النور قوَّة وضعفًا لا يُحصيه إلاَّ الله تعالى؛ فمن النَّاس مَن نُور هذه الكلمة في قلبه كالشَّمس، ومنهم مَن نُورها في قلبه كالكوْكب الدريِّ، ومنهم مَن نورها في قلبه كالمشْعل العظيم.
وكلَّما عظم نُور هذه الكلمة واشتدَّ، أَحْرق من الشُّبهات والشَّهوات بحسب قوَّته وشدَّته، حتَّى إنَّه ربَّما وصل إلى حال لا يُصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبًا إلاَّ أحرقه، وهذا حال الصَّادق في توحيده الَّذي لم يشرك بالله شيئًا، فأي ذنبٍ أو شهوةٍ أو شبهةٍ دنت من هذا النور أحْرقها، فسماء إيمانه قد حُرِسَت بالنجوم من كل سارقٍ لحسناته، فلا ينال منها السَّارق إلاَّ على غِرَّة وغفلة لا بدَّ منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سُرِق منه، استنقَذَه من سارقه، أو حصَّل أضعافه بكسْبِه، فهو هكذا أبدًا مع لصوص الجنِّ والإنس، ليس كمَن فتح لهم خزانتَه، وولَّى الباب ظهْره.
وليس التَّوحيد مجرَّد إقرار العبد بأنَّه لا خالق إلاَّ الله، وأنَّ الله ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكه، كما كان عبَّاد الأصنام مقرِّين بذلك وهم مشركون، بل التَّوحيد يتضمَّن من محبَّة الله، والخضوع له، والذُّلِّ، وكمال الانقِياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعْلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنْع والعطاء، والحب والبغض - ما يَحول بين صاحبِه وبين الأسباب الدَّاعية إلى المعاصي والإصرار عليْها، ومَن عرف هذا، عرف قولَ النَّبيِّ: «
»، وقوله: « »، وما جاء من هذا الضرْب من الأحاديث التي أَشْكلتْ على كثيرٍ من النَّاس، حتَّى ظنَّها بعضُهم منسوخةً، وظنَّها بعضُهم قيلت قبل وُرود الأوامر والنَّواهي واستِقْرار الشَّرع، وحملها بعضُهم على نار المشركين والكفَّار، وأوَّل بعضهم الدُّخول بالخلود، وقال: المعنى: لا يدخلها خالدًا، ونحو ذلك من التَّأويلات المستكْرَهة.والشَّارع - صلوات الله وسلامه عليه - لَم يجعل ذلك حاصلاً بمجرَّد قول اللسان فقط، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطِرار من دين الإسلام؛ فإنَّ المنافقين يقولونَها بألسنتِهم، وهم تحْت الجاحدين لها في الدَّرك الأسفل من النَّار، فلا بدَّ من قوْل القلب وقوْل اللسان.
وقول القلب: يتضمَّن من معرفتها، والتَّصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمَّنتْه، من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهيَّة المنفيَّة عن غير الله المختصَّة به، الَّتي يستحيل ثبوتُها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلْب: علمًا ومعرفةً ويقينًا وحالاً - ما يوجب تحريم قائلها على النَّار، وكلُّ قولٍ رتَّب الشَّارع ما رتَّب عليْه من الثَّواب، فإنَّما هو القول التَّام؛ كقوْلِه: «
»، وليس هذا مرتَّبًا على مجرَّد قول اللسان.وتأمل حديث البطاقة التي تُوضع في كِفَّة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاًّ، كلُّ سجلٍّ منها مدَّ البصَر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذَّب، ومعلومٌ أنَّ كلَّ موحِّد له مثل هذه البطاقة، وكثيرٌ منهُم يدخل النَّار بذنوبه، ولكن السّر الَّذي ثقَّل بطاقة ذلك الرَّجُل، وطاشت لأجله السجلات، لمَّا لم يحصُل لغيره من أرْباب البطاقات، انفردت بطاقته بالثِّقَل والرَّزانة، وإذا أردتَ زيادة الإيضاح لِهذا المعنى، فانظُر إلى ذِكْرِ مَن قلبه ملآن بمحبَّتك، وذكْر مَن هو مُعْرض عنك، غافل ساهٍ، مشغول بغيرِك، قد انجذبتْ دواعي قلبه إلى محبَّة غيرك وإيثاره عليك، هل يكون ذكرُهُما واحدًا؟! أم هل يكون ولداك اللَّذان هما بهذِه المثابة أو عبداك أو زوْجتاك عندك سواء؟!
وتأمَّل ما قام بقلْب قاتل المائة من حقائقِ الإيمان، الَّتي لم تشغله عند السياق عن السَّير إلى القرْية، وحملَتْه وهو في تلك الحال على أن جعَل ينوء بصدْرِه ويُعالج سكرات الموت، فهذا أمرٌ آخَر وإيمان آخَر، ولا جرم أنْ أُلْحِق بالقرية الصَّالحة، وجعل من أهلها.
وقريبٌ من هذا: ما قام بقلْب البغي الَّتي رأتْ ذلك الكلْب وقد اشتدَّ به العطش، يأكُل الثَّرى، فقام بقلْبِها ذلك الوقْتَ مع عدم الآلة وعدم المعين، وعدم مَن تُرائيه بعملِها - ما حملها على أن غرَّرت بنفسِها في نزول البئر، وملْء الماء في خفِّها، ولم تعْبأ بتعرُّضها للتَّلَف، وحمْلِها خفَّها بفيها وهو ملآن، حتَّى أمْكنها الرقيُّ من البئر، ثمَّ تواضُعها لهذا المخلوق الذي جرتْ عادة النَّاس بضرْبِه، فأمسكت له الخفَّ بيدِها حتَّى شرب، من غير أن ترْجو منْه جزاءً ولا شكورًا، فأحرقت أنوارُ هذا القدْر من التَّوحيد ما تقدَّم منها من البغاء؛ فغفر لها.
فهكذا الأعْمال والعمَّال عند الله، والغافل في غفْلة من هذا الإكسير الكيماوي، الَّذي إذا وضع منه مثْقال ذرَّة على قناطير من نُحاس الأعمال، قلَبَها ذهبًا، والله المستعان".
أمَّا قولُك: "إنَّ الله حرَّم الخمر في الدنيا وحلَّلها في الجنَّة".
فالجواب عنه كما قال الحبر ابن عبَّاس - رضِي الله عنهُما - قال: "ليس في الجنَّة شيءٌ ممَّا في الدُّنيا إلا الأسماء"؛ رواه البيْهقي، وصحَّحه الألباني.
وأيضًا فإنَّ الشَّارع الحكيم إنَّما حرَّم الخمر في الدنيا؛ لمفاسدها الَّتي منها صدُّ القلب عن ذكر الله وعن الصلاة، وانغلاب العقل وذَهاب حِجاه، ووقوع البغضاء بين المؤْمِنين، بل ربَّما أوْصل إلى القتْل؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، فلمَّا أمِنوا من غائلة السُّكْر، وعدم إيقاع العرْبدة الموجِبة للعداوة، وزوال العقل في الآخِرة - أُبيح منْها الاسم فقط، أمَّا الجوهر والصِّفات، فلا؛ وهذا ظاهرٌ لمَن تأمَّله.
وأيضًا فقد أثبتَ الشَّارع الحكيم في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، أثبتَ للخمر نوعًا من النَّفع، فهل يُقال مثل هذا فيمن قال فيهم: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]؛ أي: الخصلة التي بلغتْ في العظم والشَّناعة إلى أن استغرقت أنواع الفحْش، بالإقبال على أدْبار الرجال، الَّتي هي غاية في الشَّناعة والخبث، ومحلُّ خروج الأنْتان والأخْباث والنجو، الَّتي يُستحْيا من ذِكْرها؛ ولذلك عقَّب - سبحانه - بقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81]؛ أي: متجاوِزون لما حدَّه اللَّه، متجرِّئون على محارمه، فكيف لعاقل أن يتوهم إباحة تلك الخبائث في دار السلام، دار الطيبين المطهرين.
وأما استدلال السائل بقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، وأنه إنما تَشْتهيه نفْسه الذُّكور.
فالجواب: أن الجنة سميت دار السلام؛ لسلامتها من كل عيب وآفة وكدر وخبث، فكيف يقال هذا؟! ولا يبعد ألا يكون لأهل الجنة محل لخروج الغائط، يوطأ فيه؛ إذ أنهم لا يتغوطون.
أما ما تشتهيه الأنفس، فكل نعيم للروح والقلب والبدن، من المنازل الأنيقة، والرياض الناضرة، والأشجار المثمرة، والطيور المغردة المشجية، والمآكل اللذيذة، والمشارب الشهية، والنساء الحسان، والخدم، والولدان، والأنهار السارحة، والمناظر الرائقة، والجمال الحسي والمعنوي، والنعمة الدائمة، وأعلى ذلك وأفضله وأجله، التنعم بالقرب من الرحمن، ونيل رضاه، الذي هو أكبر نعيم الجنان، والتمتع برؤية وجهه الكريم، وسماع كلام الرؤوف الرحيم، فلله تلك الضيافة، ما أجلها وأجملها، وأدومها وأكملها، وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق، أو تخطر على القلوب، فلو علم العباد بعض ذلك النعيم، علمًا حقيقيًا، لطارت إليها قلوبهم بالأشواق، ولتقطعت أرواحهم من ألم الفراق، ولساروا إليها زرافات ووحدانًا، ولم يؤثروا عليها دنيا فانية، ولذات منغصة متلاشية، ولم يفوتوا أوقاتًا تذهب ضائعة خاسرة؛ قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة : 17].
ثم هل يقال - طردًا لهذا الاستدلال الخاطئ -: إنَّ مَن اشتهى أمَّه في الدُّنيا - عياذًا بالله - ينعم بما تشتهيه نفسه الخبيثة بوطء أمه في الآخرة؟! أو يتزوَّجُها في الجنَّة الطيبين المطهَّرين؟!.
وهكذا يقال عن سائر الشذوذات؛ فنحن نعلم أن من الشاذين من يتلذذ بالقتل، فهل يتنعم في الجنة بذلك أيضاً؟! ومنهم من يتلذذ بالضرب؛ والسرقة وهو ليس بحاجة.. إلخ.
أم نَقول: إنَّ جَميع الفواحش والمحرمات محلُّها دار الفواحش الَّتي هي جهنَّم أعاذنا الله منها؟!
هذا؛ والله أعلم.