سُئِلَ :عن قول أبي محمد عبد اللّه في آخر عقيدته‏

ابن تيمية

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: سُئِلَ عن قول الشيخ أبي محمد عبد اللّه بن أبي زيد في آخر عقيدته‏:‏ وأن خير القرون القرن الذين رأوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏.‏
وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي‏.
‏‏ فما الدليل على تفضيل أبي بكر على عمر‏؟‏ وتفضيل عمر على عثمان، وعثمان على عليّ ‏؟‏ فإذا تبين ذلك، فهل تجب عقوبة من يفضل المفضول على الفاضل أم لا‏؟‏ بينوا لنا ذلك بيانا مبسوطًًًًا مأجورين، إن شاء الله تعالى‏.‏
الإجابة: الحمد للّه رب العالمين، أما تفضيل أبي بكر، ثم عمر علَى عثمان وعلي، فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، والليث بن سعد، وأهل مصر، والأوزاعي، وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سَلَمة، وأمثالهم من أهل العراق‏.‏
وهو مذهب الشافعي وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة‏.‏
وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال‏:‏ ما أدركتُ أحدًا ممن أقتدى به يشك في تقديم أبي بكر وعمر‏.‏

وهذا مستفيض عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب‏.‏
وفي صحيح البخاري عن محمد ابن الحنفية؛ أنه قال لأبيه على بن أبي طالب‏:‏ يا أبت مَن خيُر الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ يا بني، أو ما تعرف‏؟‏‏!‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أبو بكر‏.‏ قلت‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ عمر‏.‏
ويروى هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجها، وأنه كان يقوله على منبر الكوفة؛ بل قال‏:‏ لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حَدَّ المفْتَرِى‏.‏
فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله رضي اللّه عنه ثمانين سوطًًًًا‏.‏

وكان سفيان يقول‏:‏ من فضل علياً على أبي بكر، فقد أزْرَى‏ [‏أي‏:‏ حطَّ من شأنهم] ‏بالمهاجرين، وما أرى أنه يصعد له إلى اللّه عمل وهو مقيم على ذلك‏.‏
وفي الترمذي، وغيره روى هذا التفضيل‏:‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏ ‏"‏ ‏‏يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين؛ إلا النبيين والمرسلين‏"‏‏‏.‏
وقد استفاض في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه‏:‏ من حديث أبي سعيد، وابن عباس، وجندب بن عبد اللّه، وابن الزبير، وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ‏‏لو كنت متخذًًًًا من أهل الأرض خليلًًًًا لاتخذت أبا بكر خليلًًًًا، ولكن صاحبكم خليل اللّه‏"يعني‏:‏ نفسه‏.‏

وفي الصحيح أنه قال على المنبر "إن أمنَّ الناس علىَّ في صحبته، وذات يده، أبو بكر، ولو كنت متخذًًًًا من أهل الأرض خليلًًًًا لاتخذت أبا بكر خليلًًًًا، ولكن صاحبكم خليل اللّه‏.‏ ألا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سُدَّتْ إلا خَوْخة أبي بكر‏"‏‏‏.‏
وهذا صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض من يستحق المخالَّة لو كانت ممكنة من المخلوقين إلا أبا بكر‏.‏
فعلم أنه لم يكن عنده أفضل منه، ولا أحب إليه منه، وكذلك في الصحيح أنه قال عمرو بن العاص‏ " أي الناس أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏عائشة‏‏ قال‏:‏ فمن الرجال‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏أبوها‏"‏‏‏.‏

وكذلك في الصحيح أنه قال لعائشة "ادعى لي أباك وأخاك، حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناس من بعدي، ثم قال‏:‏ يَأْبَي اللّه والمؤمنون إلا أبا بكر"‏‏، وفي الصحيح عنه " أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول اللّه، أرأيت إن جئتُ فلم أجدك كأنها تعني الموت قال‏:‏ فَأْتى أبا بكر‏"‏‏‏.‏
وفي السنن عنه أنه قال ‏"‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"‏‏‏.‏
وفي الصحيح عنه أنه كان في سفر فقال "إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا‏"‏‏‏.‏
وفي السنن عنه أنه قال "رأيت كأني وضعت في كفة والأمة في كفة، فَرَجَحتُ بالأمة، ثم وضع أبو بكر في كفة والأمة في كفة، فرجح أبو بكر، ثم وضع عمر في كفة والأمة في كفة، فرجح عمر‏"‏‏‏.‏

وفي الصحيح أنه كان بين أبي بكر وعمر كلام، فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فلم يفعل‏‏ فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك‏ فقال "اجلس يا أبا بكر، يغفر اللّه لك‏‏ وندم عمر، فجاء إلى منزل أبي بكر فلم يجده، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏أيها الناس، إني جئت إليكم، فقلت‏:‏ إني رسول اللّه، فقلتم‏:‏ كذبت، وقال أبو بكر‏:‏ صدقت‏‏ فهل أنتم تاركو لي صاحبي‏؟‏ فهل أنتم تاركو لي صاحبي‏؟‏ فهل أنتم تاركو لي صاحبي‏؟‏‏‏ فما أوذي بعدها‏".
‏‏ وقد تواتر في الصحيح والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض قال "مروا أبا بكر فليصل بالناس‏,‏ مرتين، أو ثلاثًًًًا، حتى قال‏:‏ ‏‏إنكن لأنتن صواحب يوسف‏!‏ مروا أبا بكر أن يصلي بالناس‏".
‏‏
فهذا التخصيص، والتكرير، والتوكيد في تقديمه في الإمامة على سائر الصحابة مع حضور عمر وعثمان وعلى وغيرهم مما بين للأمة تقدمه عنده صلى الله عليه وسلم على غيره‏.
‏‏ وفي الصحيح‏:‏ أن جنازة عمر لما وضعت جاء على بن أبي طالب يتخلل الصفوف، ثم قال‏:‏ لأرجو أن يجعلك اللّه مع صاحبيك، فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر‏"‏‏‏.‏
فهذا يبين ملازمتهما للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ في مدخله، ومخرجه، وذهابه‏.‏

ولذلك قال مالك للرشيد‏:‏ لما قال له‏:‏ يا أبا عبد اللّه، أخبرني عن منزلة أبي بكر، وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد وفاته، فقال‏:‏ شفيتني يا مالك‏.‏ وهذا يبين أنه كان لهما من اختصاصهما بصحبته، ومؤازرتهما له على أمره، ومباطنتهما، مما يعلمه بالاضطرار كل من كان عالمًًًًا بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأقواله، وأفعاله، وسيرته مع أصحابه‏.‏

ولهذا لم يتنازع في هذا أحد من أهل العلم بسيرته وسنته وأخلاقه، وإنما /ينفي هذا أو يقف فيه من لا يكون عالمًا بحقيقة أمور النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان له نصيب من كلام أو فقه أو حساب أو غير ذلك أو من يكون قد سمع أحاديث مكذوبة تناقض هذه الأمور المعلومة بالاضطرار عند الخاصة من أهل العلم، فتوقف في الأمر، أو رجح غير أبي بكر‏.‏

وهذا كسائر الأمور المعلومة بالاضطرار عند أهل العلم بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ وإن كان غيرهم يشك فيها، أو ينفيها، كالأحاديث المتواترة عندهم في شفاعته، وحوضه، وخروج أهل الكبائر من النار، والأحاديث المتواترة عندهم‏:‏ في الصفات، والقدر، والعلو، والرؤية، وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته، كما تواترت عندهم عنه، وإن كان غيرهم لا يعلم ذلك، كما تواتر عند الخاصة من أهل العلم عنه الحكم بالشُّفْعَة، وتحليف المدعى عليه، ورجم الزاني المحصن، واعتبار النِّصَاب في السرقة، وأمثال ذلك من الأحكام التي ينازعهم فيها بعض أهل البدع‏.‏

ولهذا كان أئمة الإسلام متفقين على تبديع من خالف في مثل هذه الأصول، بخلاف من نازع في مسائل الاجتهاد التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه، كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين، وفي القَسامة، والقُرْعَة، وغير ذلك من الأمور التي لم تبلغ هذا المبلغ‏.‏

وأما عثمان، وعلىُّ، فهذه دون تلك، فإن هذه كان قد حصل فيها نزاع فإن سفيان الثوري وطائفة من أهل الكوفة، رجحوا عليًًًًا على عثمان، ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره‏.‏ وبعض أهل المدينة توقف في عثمان وعلى، وهي إحدى الروايتين عن مالك، لكن الرواية الأخرى عنه تقديم عثمان على عليٍّ، كما هو مذهب سائر الأئمة؛ كالشافعي، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وأصحابه، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام‏.‏

حتى إن هؤلاء تنازعوا فيمن يقدم عليًًًًا على عثمان، هل يعد من أهل البدعة‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏

وقد قال أيوب السخْتيَانِيّ، وأحمد بن حنبل، والدارقطني‏:‏ من قَدَّمَ عليًًًًا على عثمان فقد أزْرَى بالمهاجرين والأنصار‏.‏

وأيوب هذا إمام أهل السنة، وإمام أهل البصرة، روى عنه مالك في الموطأ، وكان لا يروى عن أهل العراق ‏.‏

وروى أنه سئل عن الرواية عنه، فقال‏:‏ ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه‏.
‏‏ وذكره أبو حنيفة فقال‏:‏ لقد رأيته قعد مقعدًا في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ما ذكرته إلا اقشعر جسمي‏.‏

والحجة لهذا ما أخرجاه في الصحيحين وغيرهما، عن ابن عمر؛ أنه قال‏:‏ كنا نفاضل على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏
كنا نقول أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان‏.
‏‏ وفي بعض الطرق يبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره‏.‏

وأيضًا، فقد ثبت بالنقل الصحيح في صحيح البخاري وغير البخاري أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جعل الخلافة شوري في ستة أنفس؛عثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف ولم يدخل معهم سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وكان من بني عدي قبيلة عمر وقال عن ابنه عبد اللّه‏:‏ يحضركم عبد اللّه وليس له في الأمر شىء ووصى أن يصلي صهيب بعد موته، حتى يتفقوا على واحد‏.
‏‏
فلما توفى عمر واجتمعوا عند المنبر، قال طلحة‏:‏ ما كان لي من هذا الأمر فهو لعثمان‏.‏

وقال الزبير‏:‏ ما كان لي من هذا الأمر فهو لعلي‏.‏
وقال سعد‏:‏ ما كان لي من هذا الأمر فهو لعبد الرحمن بن عوف‏.‏
فخرج ثلاثة وبقى ثلاثة‏ فاجتمعوا، فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ يخرج منا واحد، ويولي واحدًا، فسكت عثمان، وعلى‏‏ فقال عبد الرحمن‏:‏ أنا أخرج‏.‏
وروى أنه قال‏:‏ عليه عهد اللّه وميثاقه أن يولي أفضلهما ‏‏ ثم قام عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها يشاور المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمهات المؤمنين، ويشاور أمراء الأمصار فإنهم كانوا في المدينة حجوا مع عمر وشهدوا موته حتى قال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ إن لي ثلاثًًًًا ما اغتمضت بنوم‏‏ فلما كان اليوم الثالث قال لعثمان‏:‏ عليك عهد اللّه وميثاقه، إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت عليًًًًا لتسمعن ولتطيعن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏‏ وقال لعلي‏:‏ عليك عهد اللّه وميثاقه إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت عثمان لتسمعن ولتطيعن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان، فبايعه على، وعبد الرحمن، وسائر المسلمين؛ بيعة رضًا، واختيار من غير رغبة أعطاهم إياها، ولا رهبة خوفهم بها‏.‏

وهذا إجماع منهم على تقديم عثمان على علي‏.
‏‏ فلهذا قال أيوب، وأحمد بن حنبل، والدارقطني‏:‏ من قدم عليًًًًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، فإنه وإن لم يكن عثمان أحق بالتقديم، وقد قدموه، كانوا إما جاهلين بفضله، وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني‏.‏

ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم‏.‏

ولو زعم زاعم أنهم قدموا عثمان ِلضِغْنٍ كان في نفس بعضهم على عليٍّ، وأن أهل الضغن كانوا ذوي شوكة، ونحو ذلك مما يقوله أهل الأهواء، فقد نسبهم إلى العجز عن القيام بالحق، وظهور أهل الباطل منهم على أهل الحق‏.‏
هذا وهم في أعز ما كانوا، وأقوي ما كانوا، فإنه حين مات عمر كان الإسلام من القوة، والعز، والظهور، والاجتماع والائتلاف فيما لم يصيروا في مثله قط‏.‏وكان عمر أعَزَّ أهل الإيمان، وأذل أهل الكفر والنفاق‏:‏ إلى حد بلغ في القوة والظهور مبلغًًًًا، لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور‏.‏

فمن جعلهم في مثل هذه الحال جاهلين أو ظالمين أو عاجزين عن الحق فقد أزرى بهم، وجعل خير أمة أخرجت للناس على خلاف ما شهد اللّه به لهم‏.‏

وهذا هو أصل مذهب الرافضة، فإن الذي ابتدع الرفض كان يهوديًا أظهر الإسلام نفاقًًًًا، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان؛ ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة‏.‏
فإنه يكون الرجل واقفًًًًا، ثم يصير مُفَضِّلًًًًا، ثم يصير سَبَّابًا، ثم يصير غاليا، ثم يصير جاحدًًًًا مُعَطِّلًًًًا؛ ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة والباطنية، والدرزية، وأمثالهم من طوائف الزندقة، والنفاق‏.
‏‏
فإن القَدْح في خير القرون الذين صحبوا الرسول قَدْحٌ في الرسول عليه السلام كما قال مالك وغيره من أئمة العلم‏:‏ هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل‏:‏ رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلًًًًا صالحًًًًا لكان أصحابه صالحين‏.‏

وأيضًا، فهؤلاء الذين نقلوا القرآن، والإسلام، وشرائع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نقلوا فضائل علي وغيره فالقدح فيهم يوجب ألا يوثق بما نقلوه من الدين، وحينئذ فلا تثبت فضيلة، لا لعلي، ولا لغيره‏.‏
والرافضة جهال ليس لهم عقل، ولا نقل ولا دين، ولا دنيا منصورة‏.‏

فإنه لو طلب منهم الناصبي الذي يبغض عليًا، ويعتقد فسقه أو كفره‏:‏ كالخوارج وغيرهم أن يثبتوا إيمان علي؛ وفضله‏:‏ لم يقدروا على ذلك، بل تغلبهم الخوارج‏.‏
فإن فضائل على إنما نقلها الصحابة الذين تقدح فيهم الرافضة‏.‏
فلا يتيقن له فضيلة معلومة على أصلهم، فإذا طعنوا في بعض الخلفاء بما يفترونه عليهم من أنهم طلبوا الرياسة، وقاتلوا على ذلك كان طعن الخوارج في علي بمثل ذلك وأضعافه أقرب من دعوى ذلك على من أطيع بلا قتال، ولكن الرافضة جهال متبعون الزنادقة‏.‏

والقرآن قد أثنى على الصحابة في غير موضع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏100‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}‏‏ ‏[‏الحديد‏:‏10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ‏}‏‏ ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا‏}‏‏ ‏[‏الفتح‏:‏18‏]‏‏.‏
وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة‏"، وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه‏"‏‏، وقد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه أنه قال "خيْرُ القرون القرن الذي بُعِثْتُ فيهم، ثم الذين يَلُونَهُمْ، ثم الذين يَلُونَهُم‏"‏‏‏.‏
وهذه الأحاديث مستفيضة، بل متواترة في فضائل الصحابة، والثناء عليهم، وتفضيل قَرْنِهم على من بعدهم من القرون‏.‏
فالَقدْحُ فيهم قدح في القرآن، والسنة؛ ولهذا تكلم الناس في تكفير الرافضة بما قد بسطناه في غير هذا الموضع‏.‏
واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الرابع (العقيدة)