صلة الأم وإن قطعت

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: التقوى وحب الله - فتاوى وأحكام - الأدب مع الوالدين - استشارات تربوية وأسرية -
السؤال:

هل يعتبر هجري لأمي خوفًا عَلَى سلامة أولادي وبيتي وسلامة عقلي عقوقًا لها؟ مع العلم أنها في كامل صحتها الجسدية، والنفسية، ولا تحتاجني في شيء، وأعلنت - مِرارًا وَتَكرارًا - أنها لا تريدني في حياتها.

جزاكم الله خيرًا.

الإجابة:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:

فلا يجوز هجر الأم - بحال - بل تجب صلتها؛ لأن صلةَ الرَّحم واجبةٌ، وقطيعتُها من الكبائر الموجبة للَّعْن والطَّرْد من رحْمة الله؛ لقولِهِ - تعالى -: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].

وفي الحديث الذي رواهُ أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «إنَّ الله خلَقَ الخلْق، حتَّى إذا فرغَ منهُم، قامَتِ الرَّحم، فقالتْ: هذا مقام العائِذ من القطيعة، قال: نعم، أما ترضَين أن أصِل مَن وصلك، وأقطع مَن قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لكِ»، ثُمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: «اقرؤوا إنْ شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}» ؛ متَّفق عليه، واللفظ لمسلم.

وعن جُبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا يدخُل الجنَّة قاطعٌ»؛ يعني: قاطع رحِم؛ متَّفق عليْه.

وعن ابن الزبيْر - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلَّم - قال: «لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجُر أخاهُ فوق ثلاثِ ليال»؛ رواه البخاري.

وعن أبي هُريْرة - رضي الله عنْه -: أنَّ رجُلاً قال: يا رسول الله، إنَّ لي قرابةً أصلِهُم ويقطعونني، وأُحْسِن إليْهِم ويسيئون إليَّ، وأحلُم عليهم ويَجهلون عليَّ، فقال: «إن كنتَ كما قلتَ، فكأنَّما تُسِفُّهم الْمَلَّ، ولا يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليْهم، ما دُمْتَ على ذلك»؛ رواه مسلم.

قال النووي في "شرح مسلم": "ومعناه: كأنَّما تُطْعِمُهم الرَّماد الحارَّ، وهو تشبيهٌ لِما يلحقُهم من الألم بِما يَلْحق آكلَ الرَّماد الحارِّ من الألم، ولا شيء على هذا الْمُحسِن، بل ينالُهم الإثم العظيم في قطيعتِه، وإدخالهم الأذَى عليه، وقيل: معناه: إنَّك بالإحسان إليْهم تُخزيهم وتحقرهُم في أنفسِهم؛ لكثرة إحسانِك وقبيح فعْلِهم، من الخزي والحقارة عند أنفُسِهم، كمن يسفُّ الملَّ، وقيل: ذلك الذي يأكلونه من إحْسانِك كالملِّ يُحرق أحشاءَهم".

ولعلَّه باستِمرارِكِ في دفْع الإساءة بالإحسان والصِّلة يشرحُ الله صدْرَها للحقِّ؛ كما قال - تعالى -: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].

وكون أمك تتعسف معك في استِخْدام حقِّها في البرِّ، أو تفعل أشياء تضر بك، أو بأولادك، فلا يُجِيزُ ذلك قطعَ رحمها، وإنما الواجب العمل على صلتها بما لا يتضرر به الأبناء، ولا يحل لكِ هجرُها إلا إن قطعت أمك رحمك، ولم تمكنْك من صلتها،،

والله أعلم.