هم يكاد يؤدي بي إلى الانتحار
خالد عبد المنعم الرفاعي
تقول: أنا غلطت في حق فتاة صغيرة بالمهاد، وهي لا تعلم ولا أحد يعلم وأنا تائبة إلى الله ولا أقدر أقول لأحد هذا الشيء، وأنا أريد أن أتحلل من هذا الذنب والتفكير فيه.
- التصنيفات: التوبة -
السلام عليكم،
أولاً: يا شيخ أنا تائبة إلى الله توبة نصوح، وعند صغري كنت أقوم بالأعمال الخاطئة، وعند بلوغي -ولا أذكر بالفعل هل أنا بلغت أم لا- ولكن أغلب الظن أني قد بلغت، وأريد إجابتكم على أني بالغة لأني لا أريد أن أموت وعليّ أثم.
أنا قرأت يا شيخ أن حق الله يغفره الله، ولكن حق العباد لايغفره الله، سؤالي يا شيخ: أنا غلطت في حق فتاة صغيرة بالمهاد، وهي لا تعلم ولا أحد يعلم، ولا أعلم حقًا هل أنا استمتعت بها أم لا؟ ولكني يا شيخ لم أنزل ما عليها من لباس، وأنا تائبة إلى الله ولا أقدر أقول لأحد هذا الشيء لأني الآن فتاة متزوجة، وهذا يترتب عليّ بفضيحة وأنا أريد أن أتحلل من هذا الذنب والتفكير فيه.
ماذا عليّ أن أفعل؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رَسُول الله، وعلى آله وصَحْبه ومن والاه، أما بعدُ:
فهنيئًا لك التوبة، والحمد لله الذي من عليك ووفقك لها؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما في الحديث الصحيح، والله تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره كما قال الحبر ابن عباس رضي الله عنهما، فاعرضي عن وساوس الشيطان، ولا تستمعي إليها، واحذري من الاسترسال مع خطرات النفس والشيطان.
فالله سبحانه الغفور الرحيم، لا يؤيس عباده من رحمته، ومن تقرب منه شبرًا تقرب منه ذراعًا، ومن تقرب منه ذراعًا تقرب منه باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولًا، ومن لقيه بقراب الأرض خطيئة لا يشرك به شيئًا لقيه بمثلها مغفرة، ولو بلغت ذنوب العبد عنان السماء، ثم استغفر الله غفر له.
يشكر سبحانه اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، رحمته سبقت غضبه، وحلمه سبق مؤاخذته، وعفوه سبق عقوبته، هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض مهلكة دوية عليها طعامه وشرابه، فطلبها حتى إذا أيس من حصولها، نام في أصل شجرة ينتظر الموت، فاستيقظ فإذا هي على رأسه، قد تعلق خطامها بالشجرة، فالله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته، فالتوبة أجل وأحب الطاعات إلى الله تعالى.
وتأملي سلمك الله تلك الآيات بعين البصيرة:
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 53، 54]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]، وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وأمثالُ هذه الآيات الكريمات كثيرة.
وفي الصحيحينِ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عزَّ وجلَّ، قال: «أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخُذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئتَ فقد غفرتُ لك».
فالله سبحانه خلى بين العبد وبين الذنب، وأقدره عليه، وهيئ أسبابه له، ولو شاء لعصمه وحال بينه وبينه، لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله تعالى.
"فهو سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح يقدر أو يخطر ببال، أو يدور في خلد، وحصول هذا الفرح موقوف على التوبة الموقوفة على وجود ما يتاب منه، وما يتوقف عليه الشيء لا يوجد بدونه؛ فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولا ريب أن وجود الفرح أكمل من عدمه، فمن تمام الحكمة تقدير أسبابه ولوازمه، وقد نبه أعلم الخلق بالله على هذا المعنى بعينه حيث يقول في الحديث الصحيح: «لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم»، فلو لم يقدر الذنوب والمعاصي، فلمن يغفر، وعلى من يتوب، وعمن يعفو ويسقط حقه ويظهر فضله وجوده وحلمه وكرمه؛ وهو واسع المغفرة فكيف يعطل هذه الصفة؟!
أم كيف يتحقق بدون ما يغفر، ومن يغفر له، ومن يتوب وما يتاب عنه، فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمة، وغاية محمودة، فكيف والحكم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال، وكان بعض العباد يدعو في طوافه اللهم اعصمني من المعاصي، ويكرر ذلك فقيل له في المنام: أنت سألتني العصمة، وعبادي يسألوني العصمة، فإذا عصمتكم من الذنوب، فلمن أغفر، وعلى من أتوب، وعمن أعفو؟ ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه".اهـ. قاله الإمام ابن القيم في كتابه "شفاء العليل" (ص: 222).
فاحذري أن تُغلقي على قلبك أنوارَ أسماء الله وصفاته، وداومي على ذِكْرِ الله يَجْعل الله لك نورًا وفرقانًا، وتأمَّلي كتاب الكون المنظور، وتدبَّري كتابه المسطور، وهو القرآنُ الكريمُ بنفسٍ هادئةٍ مستسلمةٍ لأمر الله - يذهب الله عنك ما علق بنفسك من الوساوس، ويمتلئ قلبك نورًا وفرحًا وسُرورًا، فعبادةُ الصبر أعلى الغايات، وإعانته عليها أجل الوسائل.
ولا تفكري في تلك المعصية، وكلما ذكرك الشيطان بها، جددي التوبة والاستغفار، ثم اقطعي تلك الخطرة ولا تسترسلي معها.
وقد ذكرتِ أنكِ لا تريدين أن تموتي على معصية، فكيف تفكرين في الانتحار وهو من أكبر الكبائر، وصاحبه مخلد في النار، وتَخْسَري الدنيا والآخرة؛ كما أن قتل النفس، ليس حلًّا، ولا علاجًا لشيء، بل هو الداء العضال، لا يَقدم المسلم عليه مَهْمَا كانتِ الظُّروفُ الدافعةُ إليه، وذلك لأن فيها إزهاقًا لنفس أمر الله - تعالى - بِحفظها.
قال اللهُ تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا} [النساء: 29، 30].
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحديدةٍ؛ فَحَديدتُه يَتَوَجَّأُ بِها في بَطنِه في نَارِ جهنَّم خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، ومَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فهُو يتحسَّاهُ فِي نَارِ جهنَّم خالِدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومَنْ تردَّى من جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فهو يتردَّى في نَارِ جهنَّم خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا»؛ متفق عليه.
فقَتل المَرء نَفسه سببٌ لِلخُلُود في نار جهنم - والعياذ بالله - وأنَّ عذابه يكون بنفس الوسيلة الَّتِي تَمَّ الانتِحارُ بِها.
ثمّ إن من علم فضل الله وكرمه وجوده، لم يتردد في معرفة أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعًا، سواء كانت من حقوق الله، أو من حقوق الناس؛ إن علم من عبده الصدق،،
والله أعلم.