أب يرفض زواج ابنته
خالد عبد المنعم الرفاعي
أنا شاب مصري وأحاول التقدم للزواج من فتاة تونسية مسلمة، وهي وأهلها موافقون ما عدا أبوها، والسبب "هو هكذا"، بمعنى آخر: أنه لا يوجد سبب شرعي لرفضه بزواجي منها، ومن الواضح أنه لا يريد تزويجها من أي أحد. سؤالي هو: هل من الممكن الاستعانة بولي أمر آخر غير والدها لتزويجنا؟
- التصنيفات: فقه الزواج والطلاق -
السلام عليكم،
أنا شاب مصري وأحاول التقدم للزواج من فتاة تونسية مسلمة، وهي وأهلها موافقون ما عدا أبوها، والسبب "هو هكذا"، بمعنى آخر: أنه لا يوجد سبب شرعي لرفضه بزواجي منها، ومن الواضح أنه لا يريد تزويجها من أي أحد.
سؤالي هو: هل من الممكن الاستعانة بولي أمر آخر غير والدها لتزويجنا؟
إن كان من المقدور الاستعانة بولي أمر آخر؛ فما الشروط أو الخطوات للاستعانة بولي أمر آخر؟
هل من الممكن الاستعانة بالزواج المدني التونسي، مع العلم أنه يعطي الحق للفتاة الزواج دون علم أهلها؟
هل من وسيلة لجعل الزواج المدني على يد قاضي إسلامي شرعية؟
تونس تتبنى المذهب المالكي ومصر تتبنى مذهب أبي حنيفه في الزواج، هل من المقدور اتباع مذهب أبي حنيفه على الأراضي التونسية؟
يرجى الاستفاضة في الإجابات وإعطاء جميع الحلول للزواج بها بما يساعدنا على مخالفة شرع الله وإرضاء الله في هذه الزيجة.
جزاكم الله خيرًا.
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فالله تعالى أنزل على عباده منهجًا شرعيًا متكاملاً، يشمل جميع مناحي الحياة، وأعطى سبحانه كل ذي حق، فجعل رضا الزوجين ورضي ولي المرأة من شروط الزواج، ولكنه مَنَعَ الآباء من الاستبداد بحقهم حتى يُضَيِّعُوا أبناءهم، ونهاهم - سبحانه - عن العضل، وهو منع الابنة من التزوج بكفئها، ومن خَالَفَ من الأولياء، تسقط ولايته، وتنتقل الولايةُ للولي الأبْعَدِ؛ كما نص عليه جميعُ العُلَمَاءِ؛ قديمًا وحديثًا.
فهذه حدودُ الله التي قال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230]، وقال سبحانه وتعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232].
فإذا تقدم للفتاة شاب مرضي الدين والخُلُق، ووافقت عليه الفتاة، ورغبت فيه، فليس للولي أن يرفضه؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم مَنْ ترضَوْن دينَه وخُلُقَه فأنْكِحوه، إلا تفعلوهُ تَكُنْ فتنةٌ في الأرْض وفساد كبير»، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: «إذا جاءكم مَن ترضَوْن دينَه وخُلُقَه فأنْكِحوه» ثلاثَ مرَّات.
وقولهم في الحديث: «وإن كان فيه» معناهُ: وإن كان قليلَ المال، أو ناقصَ الكفاءة؟
فإن منَع الوالد ابنته من التزويج بكفئها - إذا طلبتْ منه ذلك، ورغِب كلُّ واحدٍ بصاحبه - فإنَّه يَفسُق بالعضْل، وتَنتقل الولايةُ إلى الوليِّ الأبعد؛ كما روى البُخاريُّ عن مَعقِل بن يسار: قال: "زوَّجتُ أختًا لي مِن رجل فَطَلَّقها، حتى إذا انقضَتْ عدَّتُها جاء يخطبها، فقلتُ له: زوَّجتُك وفرشتُك وأكرمتُك، فطلَّقْتَها، ثم جِئتَ تَخطبها، لا والله لا تعودُ إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأةُ تريدُ أن ترجعَ إليه"، فأنزل الله هذه الآية: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232]، فقلتُ: "الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوَّجها إيَّاه".
قال الإمام ابنُ قدامة في "المغني":
"إذا عضَلها وليُّها الأقرب، انتقلت الولايةُ إلى الأبعد، نصَّ عليه أحمدُ، وعنه روايةٌ أخرى: تنتقل إلى السلطان، وهو اختيارُ أبي بكر، وذُكِر ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وشُرَيْحٍ، وبه قال الشَّافعيُّ؛ لقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «فإنِ اشتجروا، فالسلطانُ وليُّ مَن لا وليَّ له».
ولأنَّ ذلك حقٌّ عليه امتَنَع مِن أدائه، فقام الحاكمُ مقامَه، كما لو كان عليه دَيْنٌ فامْتَنَع مِن قضائه، ولنا أنه تعذَّر التزويجُ مِن جهةِ الأقرب، فمَلَكَه الأبعدُ، كما لو جُنَّ، ولأنه يَفسُق بالعَضْلِ، فتَنتقلُ الولايةُ عنه، كما لو شَرِبَ الخمرَ، فإنْ عَضَلَ الأولياءُ كلُّهم، زوَّجَ الحاكمُ".اهـ.
وقال المرداويُّ في (الإنصاف): "قوله: (وإنْ عَضَلَ الأقربُ، زوَّج الأبعدُ): هذا الصحيحُ مِن المَذهَبِ، وعليه أكثرُ الأصحاب...، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: مِن صُوَر العَضْل: إذا امتنع الخُطَّاب مِن خِطبتها لشدة الوليِّ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "الفتاوى الكبرى": "وإذا رَضِيَتْ رجلًا وكان كُفْئًا لها وجَب على وليِّها - كالأخ ثم العم - أن يُزَوِّجَها به، فإن عَضَلَها وامتنع مِن تزويجِها، زوَّجها الوليُّ الأبعدُ منه أو الحاكمُ بغير إذنه باتفاقِ العلماء.
فليس للوليِّ أن يُجْبِرَها على نكاح مَن لا تَرضاه، ولا يعضِلها عن نكاح مَن تَرضاه إذا كان كُفئًا باتفاق الأئمة؛ وإنما يُجبرها ويعْضِلها أهلُ الجاهلية والظلَمة الذين يُزوِّجون نساءهم لمن يختارونه لغرضٍ، لا لمصلحة المرأةِ، ويُكرهونها على ذلك، أو يُخجِلونها حتى تفعلَ، ويعضلونها عن نكاح مَن يكون كفئًا لها؛ لعداوةٍ أو غرضٍ، وهذا كلُّه مِن عمل الجاهلية والظلم والعدوان؛ وهو مما حرَّمه الله ورسوله، واتفق المسلمون على تحريمه". اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين في فتاوى إسلامية (3/ 148-149): "إذا منع الولي تزويجَ امرأة بخاطب كفءٍ في دينه وخُلقِه، فإنَّ الولاية تنتقل إلى مَن بعده من الأقرباء العصبة الأولى فالأولى، فأن أبَوْا أن يُزوجوا كما هو الغالب؛ فإنَّ الولاية تنتقل إلى الحاكم الشرعي، ويُزوج المرأةَ الحاكمُ الشرعي، ويجب عليه إن وصلت القضية إليه، وعلم أنَّ أولياءها قد امتنعوا عن تزويجها أن يُزوجها؛ لأنَّ له ولايةً عامة ما دامتْ لم تَحصُل الولاية الخاصة.
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنَّ الولي إذا تَكرَّر ردُّه للخاطب الكفء، فإنه بذلك يكون فاسقًا، وتَسْقُط عدالته وولايته، بل إنه على المشهور مِن مذهب الإمام أحمد تَسْقُط حتى إمامته؛ فلا يَصِحُّ أن يكونَ إمامًا في صلاة الجماعة في المسلمين، وهذا أمرٌ خطيرٌ.
وبعضُ الناس - كما أشرنا إليه آنفًا - يَرُد الخُطَّاب الذين يَتقدمون إلى مَن ولَّاه الله عليهنَّ
وهم أكفاء، ولكن قد تستحي البنت مِن التقدم إلى القاضي لطلب التزويج، وهذا أمرٌ واقع، لكن يَجِب عليها أن تُقارنَ بين المصالح والمفاسد، أيها أشد مَفْسَدةً: أن تبقى بلا زوجٍ وأنْ يَتَحَكَّم فيها هذا الولي على مزاجه وهواه، فإن كبرتْ وبرد طلَبُها للنكاح زوَّجَها، أو أن تَتقدَّم إلى القاضي بطلَب التزويج، مع أن ذلك حقٌّ شرعي لها؟
لا شكَّ أنَّ البديل الثاني أولى؛ وهو أن تتقدَّم إلى القاضي بطلَب التزويج؛ لأنها يَحقُّ لها ذلك، ولأنَّ في تقدمها للقاضي، وتزويج القاضي إياها مَصلحة لغيرها؛ فإن غيرها سوف يُقدِم كما أقدمَتْ، ولأنَّ تقدُّمها إلى القاضي رَدْعٌ لهؤلاء الظلَمة، الذين يَظلمون من ولَّاهم الله عليهنَّ بمنعهنَّ مِن تزويج الأكفاء، أي: إنَّ في ذلك ثلاثَ مَصالح:
مَصلحة للمرأة؛ حتى لا تبقَى بلا زواج.
مَصلحة لغيرها؛ إذ تفتح الباب لنساء يَنتظِرْنَ مَن يتقدم ليتبَعْنَهُ.
مَنْع هؤلاءِ الأولياء الظلَمة الذين يَتَحَكَّمون في بناتهم، أو فيمَنْ ولاهم الله عليهنَّ مِن نساء على مزاجهم وعلى ما يُريدون.
وفيه أيضًا مِن المصلحة إقامةُ أمرِ الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إذا أتاكم مَن تَرضَوْنَ دينَه وخُلُقَه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير»، كما أن فيه مصلحةً خاصة؛ وهي قضاءُ وطَرِ المتقدمين إلى النساء الذين هم أكفاء في الدين والخُلُق". اهـ.
إذا تقرر هذا؛ فإن كان والد الفتاة يتعنت في عدم تزوجيها منك، وأنت مرضي الدين والخلق، والفتاة ترغب في الزواج منك- فإن ولاية الزواج تنتقل لأحد إخوتها، فإن رفضوا، زوجها عمها، وهكذا إلى بقية الأولياء من العصبة وهم أقارب الأب، فإن امتنعوا خوفًا من والدها، أو إيثارًا للسلامة، أو ما شابه، فيجوز أن تذهب للمحكمة ولتزوجها، ولتختار من هو مأمون في دينه ليكون وليًا لها؛ ليعقد معك عقدًا شرعيًا من الإيجاب والقبول،، والله أعلم