فصــل قول القائل:التجسيم كان متشابهًا
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: فصــل قول القائل: كلما قام دليل العقل على أنه يدل على التجسيم كان
متشابهًا
الإجابة: إذا ظهرت هذه المقدمة، تبين لنا أن قول القائل: كلما قام دليل العقل
على أنه يدل على التجسيم كان متشابهًا، جواب لا ينقطع به النزاع، ولا
يحصل به الانتفاع ولا يحصل به الفرق بين الصحيح والسقيم، والزائغ
والقويم.
وذلك أنه ما من ناف ينفي شيئًا من الأسماء والصفات، إلا وهو يزعم أنه قد قام عنده دليل العقل على أن يدل على التجسيم، فيكون متشابهًا، فيلزم حينئذ أن تكون جميع الأسماء والصفات متشابهات، وحينئذ فيلزم التعطيل المحض وألا يفهم من أسماء الله تعالى وصفاته معنى، ولا يميز بين معنى الحي والعليم، والقدير والرحيم، والجبار والسلام، ولا بين معنى الخلق والاستواء، وبين الإماتة والإحياء، ولا بين المجيء والإتيان، وبين العفو والغفران.
بيان ذلك: أن من نفى الصفات من الجهمية والمعتزلة والقرامطـة والباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة يقولون: إذا قلتم: إن القرآن غير مخلوق، وإن لله تعالى علمًا وقدرة وإرادة، فقد قلتم بالتجسيم، فإنه قد قام دليل العقل على أن هذا يدل على التجسيم؛ لأن هذه معاني لا تقوم بنفسها، لا تقوم إلا بغيرها، سواء سميت صفاتًا أو أعراضًا أو غير ذلك.
قالوا: ونحن لا نعقل قيام المعنى إلا بجسم، فإثبات معنى يقوم بغير جسم غير معقول. فإن قال المثبت: بل هذه المعاني يمكن قيامها بغير جسم، كما أمكن عندنا وعندكم إثبات عالم قادر ليس بجسم، قالت المثبتة: الرضا، والغضب والوجه، واليد، والاستواء والمجيء وغير ذلك فأثبتوا هذه الصفات أيضًا وقالوا: إنها تقوم بغير جسم.
فإن قالوا: لا يعقل رضا، وغضب، إلا ما يقوم بقلب هو جسم، ولا نعقل وجهًا ويدًا إلا ما هو بعض من جسم.
قيل لهم: ولا تعقل علمًا إلا ما هو قائم بجسم، ولا قدرة إلا ما هو قائم بجسم، ولا نعقل سمعًا وبصرًا وكلامًا إلا ما هو قائم بجسم.
فلمَ فرقتم بين المتماثلين؟ وقلتم: إن هذه يمكن قيامها بغير جسم، وهذه لا يمكن قيامها إلا بجسم، وهما في المعقول سواء.
فإن قالوا: الغضب هو: غليان دم القلب لطلب الانتقام، والوجه هو: ذو الأنف والشفتين واللسان والخد، أو نحو ذلك.
قيل لهم: إن كنتم تريدون غضب العبد ووجه العبد، فوزانه أن يقال لكم: ولا يعقل بصر إلا ما كان بشَحْمَة ولا سمع إلا ما كان بصِمَاخ [المراد بالصماخ: الأُذن انظر: القاموس، مادة صمخ]، ولا كلامًا إلا ما كان بشفتين ولسان، ولا إرادة إلا ما كان لاجتلاب منفعة أو استدفاع مضرة، وأنتم تثبتون للرب السمع والبصر والكلام والإرادة على خلاف صفات العبد، فإن كان ما تثبتونه مماثلا لصفات العبد لزمكم التمثيل في الجميع، وإن كنتم تثبتونه على الوجه اللائق بجلال الله تعالى من غير مماثلة بصفات المخلوقات، فأثبتوا الجميع على هذا الوجه المحدود، ولا فرق بين صفة وصفة، فإن ما نفيتموه من الصفات يلزمكم فيه نظير ما أثبتموه فإما أن تعطلوا الجميع وهو ممتنع، وإما أن تمثلوه بالمخلوقات وهو ممتنع، وإما أن تثبتوا الجميع على وجه يختص به لا يمثاله فيه غيره.
وحينئذ، فلا فرق بين صفة وصفة، فالفرق بينهما بإثبات أحـدهما ونفي الآخر فرارًا من التشبيه والتجسيم قـول باطـل، يتضمن الفرق بين المتماثلين، والتناقض في المقالتين.
فإن قال: دليل العقل دل على أحدهما دون الآخر كما يقال: إنه دل على الحياة والعلم والإرادة، دون الرضا والغضب، ونحو ذلك، فالجواب من وجوه:
أحدها: أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول عليه، فهَبْ أنه لم يعلم بالعقل ثبوت أحدها، فإنه لا يعلم نفيه بالعقل أيضًا ولا بالسمع، فلا يجوز نفيه، بل الواجب إثباته إن قام دليل على إثباته وإلا توقف فيه.
الثاني: أن يقال: إنه يمكن إقامة دليل العقل على حبه وبغضه، وحكمته ورحمته، وغير ذلك من صفاته، كما يقام على مشيئته، كما قد بين في غير هذا الموضع.
الثالث: أن يقال: السمع دل على ذلك، والعقل لا ينفيه فيجب العمل بالدليل السالم عن المعارض.
فإن عاد فقال: بل العقل ينفى ذلك؛ لأن هذه الصفات تستلزم التجسيم، والعقل ينفي التجسيم. قيل له: القول في هذه الصفات التي تنفيهـا كالقـول في الصفات التي أثبتها؛ فإن كان هذا مستلزمًا للتجسيم فكذلك الآخر، وإن لم يكن مستلزمًا للتجسيم كذلك الآخر، فدعوى المُدَّعِي الفرق بينهما بأن أحدهما يستلزم التشبيه، أو التجسيم دون الآخر، تفريق بين المتماثلين، وجمع بين النقيضين، فإن ما نفاه في أحدهما أثبته في الآخر، وما أثبته في أحدهما نفاه في الآخر، فهو يجمع بين النقيضين.
ولهذا قال المحققون: كل من نفى شيئًا من الأسماء والصفات الثابتة بالكتاب والسنة، فإنه متناقض لا محالة؛ فإن دليل نفيه فيما نفاه هو بعينه يقال فيما أثبته، فإن كان دليل العقل صحيحًا بالنفي، وجب نفي الجميع، وإن لم يكن لم يجب نفي شيء من ذلك، فإثبات شيء ونفي نظيره تناقض باطل.
فإن قال المعتزلي: إن الصفات تدل على التجسيم؛ لأن الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم، فلهذا تأولت نصوص الصفات دون الأسماء، قيل له: يلزمك ذلك في الأسماء، فإن ما به استدللت على أن من له حياة وعلم وقدرة لا يكون إلا جسمًا، يستدل به خصمك على أن العليم القدير الحي لا يكون إلا جسمًا، فيقال لك: إثبات حي عليم قدير لا يخلو: إما أن يستلزم التجسيم أو لا يستلزم، فإن استلزم لزمك إثبات الجسم، فلا يكون لرؤيته محدودًا على التقديرين، وإن لم يستلزم أمكن أن يقال: إن إثبات العلم والقدرة والإرادة لا يستلزم التجسيم، فإن كان هذا لا يستلزم فهذا لا يستلزم، وإن كان هذا يستلزم فهذا يستلزم، فلا فرق بينهما، وإن فرق فهو تناقض جلي.
فإن قال الجهمي، والقرمطي، والفلسفي الموافق لهما: أنا أنفي الأسماء والصفات معًا، قيل له: لا يمكنك أن تنفي جميع الأسماء؛ إذ لابد من إشارة القلب وتعبير اللسان عما تثبته، فإن قلت: ثابت موجود محقق، معلوم قديم واجب.
أي شيء قلت كنت قد سميته، وهب أنك لا تنطق بلسانك، إما أن تثبت بقلبك موجودًا واجبًا قديما، وإما ألا تثبته، فإن لم تثبته كان الوجود خاليا عن موجد واجب قديم، وحينئذ فتكون الموجودات كلها محدثة ممكنة، وبالاضطرار يعلم أن المحدث الممكن لا يوجد إلا بقديم واجب، فصار نفيك له مستلزماً لإثباته، ثم هذا هو الكفر والتعطيل الصريح الذي لا يقول به عاقل.
وإن قلت: أنا لا أخطر ببالي النظر في ذلك ولا أنطق فيه بلساني، قيل لك: إعراض قلبك عن العلم، ولسانك عن النطق، لا يقتضي قلب الحقائق ولا عدم الموجودات؛ فإن ما كان حقًا موجوداً ثابتًا في نفسه فهو كذلك، علمته أو جهلته، وذكرته أو نسيته، وذلك لا يقتضي إلا الجهل بالله تعالى والغفلة عن ذكر الله، والإعراض عنه و الكفر به، وذلك لا يقتضي أنه في نفسه ليس حقًا موجودًا له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى.
ولا ريب أن هذا هو غاية القرامطة الباطنية، والمعطلة الدهرية: أنهم يبقون في ظلمة الجهل وضلال الكفر، لا يعرفون الله ولا يذكرونه، ليس لهم دليل على نفيه ونفي أسمائه وصفاته، فإن هذا جزم بالنفي وهم لا يجزمون، ولا دليل لهم على النفي، وقد أْعرضوا عن أسمائه وآياته وصاروا جهالاً به، كافرين به، غافلين عن ذكره، موتى القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته.
ثم إذا فعلوا ذلك بزعمهم لئلا يقعوا في التشبيه والتجسيم، قيل لهم: ما فررتم إليه شر مما فررتم عنه، فإن الإقرار بالصانع على أي وجه كان خير من نفيه.
وأيضًا، فإن هذا العالم المشهود، كالسماء والأرض، إن كان قديمًا واجبًا بنفسه فقد جعلتم الجسم المشهود قديمًا واجبًا بنفسه، وهذا شر مما فررتم منه، وإن لم يكن قديمًا واجبًا بنفسه لزم أن يكون له صانع قديم واجب بنفسه، وحينئذ تتضح معرفته وذكره بأن إثبات الرب بالقلب واللسان حق لا ريب فيه سمعًا وعقلا، فإن كان ذلك مستلزمًا لما سميتموه تشبيهًا وتجسيمًا فلازم الحق حق، وإن لم يكن مستلزمًا له، أمكنكم إثباته بدون هذا الكلام .
فظهر تناقض النفاة كيف صرفت عليهم الدلالات، وظهر تناقض من يثبت بعض الصفات دون بعض.
فإن قالت النفاة: إنما نفينا الصفات؛ لأن دليلنا على حدوث العالم وإثبات الصانع دل على نفيها، فإن الصانع أثبتناه بحدوث العالم، وحدوث العالم إنما أثبتناه بحدوث الأجسام، والأجسام إنما أثبتنا حدوثهـا بحدوث الصفات التي هي الأعراض، أو قالوا: إنما أثبتنا حدوثها بحدوث الأفعال التي هي الحركات، وإن القابل لها لا يخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، أو أن ما قبل المجيء والإتيان والنزول كان موصوفًا بالحركة، وما اتصف بالحركة لم يخل منها، أو من السكون الذي هو ضدها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فإذا ثبت حدوث الأجسام قلنا: إن المحدث لابد له من محدث فأثبتنا الصانع بهذا، فلو وصفناه بالصفات أو بالأفعال القائمة به لجاز أن تقوم الأفعال والصفات بالقديم، وحينئذ فلا يكون دليلاً على حدوث الأجسام، فيبطل دليل إثبات الصفات .
فيقال لهم: الجواب من وجوه:
أحدها: أن بطلان هذا الدليل المعين لا يستلزم بطلان جميع الأدلة، وإثبات الصانع له طرق كثيرة لا يمكن ضبط تفاصيلها، وإن أمكن ضبط جملها.
الثاني: أن هذا الدليل لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه، للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين.
الثالث: أن الأنبياء والمرسلين لم يأمروا أحدًا بسلوك هذا السبيل، فلو كانت المعرفة موقوفة عليه وهي واجبة لكان واجبًا، وإن كانت مستحبة كـان مستحبًا، ولو كان واجبًا أو مستحبًا لشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان مشروعًا لنقلته الصحابة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد السادس (العقيدة)
وذلك أنه ما من ناف ينفي شيئًا من الأسماء والصفات، إلا وهو يزعم أنه قد قام عنده دليل العقل على أن يدل على التجسيم، فيكون متشابهًا، فيلزم حينئذ أن تكون جميع الأسماء والصفات متشابهات، وحينئذ فيلزم التعطيل المحض وألا يفهم من أسماء الله تعالى وصفاته معنى، ولا يميز بين معنى الحي والعليم، والقدير والرحيم، والجبار والسلام، ولا بين معنى الخلق والاستواء، وبين الإماتة والإحياء، ولا بين المجيء والإتيان، وبين العفو والغفران.
بيان ذلك: أن من نفى الصفات من الجهمية والمعتزلة والقرامطـة والباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة يقولون: إذا قلتم: إن القرآن غير مخلوق، وإن لله تعالى علمًا وقدرة وإرادة، فقد قلتم بالتجسيم، فإنه قد قام دليل العقل على أن هذا يدل على التجسيم؛ لأن هذه معاني لا تقوم بنفسها، لا تقوم إلا بغيرها، سواء سميت صفاتًا أو أعراضًا أو غير ذلك.
قالوا: ونحن لا نعقل قيام المعنى إلا بجسم، فإثبات معنى يقوم بغير جسم غير معقول. فإن قال المثبت: بل هذه المعاني يمكن قيامها بغير جسم، كما أمكن عندنا وعندكم إثبات عالم قادر ليس بجسم، قالت المثبتة: الرضا، والغضب والوجه، واليد، والاستواء والمجيء وغير ذلك فأثبتوا هذه الصفات أيضًا وقالوا: إنها تقوم بغير جسم.
فإن قالوا: لا يعقل رضا، وغضب، إلا ما يقوم بقلب هو جسم، ولا نعقل وجهًا ويدًا إلا ما هو بعض من جسم.
قيل لهم: ولا تعقل علمًا إلا ما هو قائم بجسم، ولا قدرة إلا ما هو قائم بجسم، ولا نعقل سمعًا وبصرًا وكلامًا إلا ما هو قائم بجسم.
فلمَ فرقتم بين المتماثلين؟ وقلتم: إن هذه يمكن قيامها بغير جسم، وهذه لا يمكن قيامها إلا بجسم، وهما في المعقول سواء.
فإن قالوا: الغضب هو: غليان دم القلب لطلب الانتقام، والوجه هو: ذو الأنف والشفتين واللسان والخد، أو نحو ذلك.
قيل لهم: إن كنتم تريدون غضب العبد ووجه العبد، فوزانه أن يقال لكم: ولا يعقل بصر إلا ما كان بشَحْمَة ولا سمع إلا ما كان بصِمَاخ [المراد بالصماخ: الأُذن انظر: القاموس، مادة صمخ]، ولا كلامًا إلا ما كان بشفتين ولسان، ولا إرادة إلا ما كان لاجتلاب منفعة أو استدفاع مضرة، وأنتم تثبتون للرب السمع والبصر والكلام والإرادة على خلاف صفات العبد، فإن كان ما تثبتونه مماثلا لصفات العبد لزمكم التمثيل في الجميع، وإن كنتم تثبتونه على الوجه اللائق بجلال الله تعالى من غير مماثلة بصفات المخلوقات، فأثبتوا الجميع على هذا الوجه المحدود، ولا فرق بين صفة وصفة، فإن ما نفيتموه من الصفات يلزمكم فيه نظير ما أثبتموه فإما أن تعطلوا الجميع وهو ممتنع، وإما أن تمثلوه بالمخلوقات وهو ممتنع، وإما أن تثبتوا الجميع على وجه يختص به لا يمثاله فيه غيره.
وحينئذ، فلا فرق بين صفة وصفة، فالفرق بينهما بإثبات أحـدهما ونفي الآخر فرارًا من التشبيه والتجسيم قـول باطـل، يتضمن الفرق بين المتماثلين، والتناقض في المقالتين.
فإن قال: دليل العقل دل على أحدهما دون الآخر كما يقال: إنه دل على الحياة والعلم والإرادة، دون الرضا والغضب، ونحو ذلك، فالجواب من وجوه:
أحدها: أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول عليه، فهَبْ أنه لم يعلم بالعقل ثبوت أحدها، فإنه لا يعلم نفيه بالعقل أيضًا ولا بالسمع، فلا يجوز نفيه، بل الواجب إثباته إن قام دليل على إثباته وإلا توقف فيه.
الثاني: أن يقال: إنه يمكن إقامة دليل العقل على حبه وبغضه، وحكمته ورحمته، وغير ذلك من صفاته، كما يقام على مشيئته، كما قد بين في غير هذا الموضع.
الثالث: أن يقال: السمع دل على ذلك، والعقل لا ينفيه فيجب العمل بالدليل السالم عن المعارض.
فإن عاد فقال: بل العقل ينفى ذلك؛ لأن هذه الصفات تستلزم التجسيم، والعقل ينفي التجسيم. قيل له: القول في هذه الصفات التي تنفيهـا كالقـول في الصفات التي أثبتها؛ فإن كان هذا مستلزمًا للتجسيم فكذلك الآخر، وإن لم يكن مستلزمًا للتجسيم كذلك الآخر، فدعوى المُدَّعِي الفرق بينهما بأن أحدهما يستلزم التشبيه، أو التجسيم دون الآخر، تفريق بين المتماثلين، وجمع بين النقيضين، فإن ما نفاه في أحدهما أثبته في الآخر، وما أثبته في أحدهما نفاه في الآخر، فهو يجمع بين النقيضين.
ولهذا قال المحققون: كل من نفى شيئًا من الأسماء والصفات الثابتة بالكتاب والسنة، فإنه متناقض لا محالة؛ فإن دليل نفيه فيما نفاه هو بعينه يقال فيما أثبته، فإن كان دليل العقل صحيحًا بالنفي، وجب نفي الجميع، وإن لم يكن لم يجب نفي شيء من ذلك، فإثبات شيء ونفي نظيره تناقض باطل.
فإن قال المعتزلي: إن الصفات تدل على التجسيم؛ لأن الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم، فلهذا تأولت نصوص الصفات دون الأسماء، قيل له: يلزمك ذلك في الأسماء، فإن ما به استدللت على أن من له حياة وعلم وقدرة لا يكون إلا جسمًا، يستدل به خصمك على أن العليم القدير الحي لا يكون إلا جسمًا، فيقال لك: إثبات حي عليم قدير لا يخلو: إما أن يستلزم التجسيم أو لا يستلزم، فإن استلزم لزمك إثبات الجسم، فلا يكون لرؤيته محدودًا على التقديرين، وإن لم يستلزم أمكن أن يقال: إن إثبات العلم والقدرة والإرادة لا يستلزم التجسيم، فإن كان هذا لا يستلزم فهذا لا يستلزم، وإن كان هذا يستلزم فهذا يستلزم، فلا فرق بينهما، وإن فرق فهو تناقض جلي.
فإن قال الجهمي، والقرمطي، والفلسفي الموافق لهما: أنا أنفي الأسماء والصفات معًا، قيل له: لا يمكنك أن تنفي جميع الأسماء؛ إذ لابد من إشارة القلب وتعبير اللسان عما تثبته، فإن قلت: ثابت موجود محقق، معلوم قديم واجب.
أي شيء قلت كنت قد سميته، وهب أنك لا تنطق بلسانك، إما أن تثبت بقلبك موجودًا واجبًا قديما، وإما ألا تثبته، فإن لم تثبته كان الوجود خاليا عن موجد واجب قديم، وحينئذ فتكون الموجودات كلها محدثة ممكنة، وبالاضطرار يعلم أن المحدث الممكن لا يوجد إلا بقديم واجب، فصار نفيك له مستلزماً لإثباته، ثم هذا هو الكفر والتعطيل الصريح الذي لا يقول به عاقل.
وإن قلت: أنا لا أخطر ببالي النظر في ذلك ولا أنطق فيه بلساني، قيل لك: إعراض قلبك عن العلم، ولسانك عن النطق، لا يقتضي قلب الحقائق ولا عدم الموجودات؛ فإن ما كان حقًا موجوداً ثابتًا في نفسه فهو كذلك، علمته أو جهلته، وذكرته أو نسيته، وذلك لا يقتضي إلا الجهل بالله تعالى والغفلة عن ذكر الله، والإعراض عنه و الكفر به، وذلك لا يقتضي أنه في نفسه ليس حقًا موجودًا له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى.
ولا ريب أن هذا هو غاية القرامطة الباطنية، والمعطلة الدهرية: أنهم يبقون في ظلمة الجهل وضلال الكفر، لا يعرفون الله ولا يذكرونه، ليس لهم دليل على نفيه ونفي أسمائه وصفاته، فإن هذا جزم بالنفي وهم لا يجزمون، ولا دليل لهم على النفي، وقد أْعرضوا عن أسمائه وآياته وصاروا جهالاً به، كافرين به، غافلين عن ذكره، موتى القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته.
ثم إذا فعلوا ذلك بزعمهم لئلا يقعوا في التشبيه والتجسيم، قيل لهم: ما فررتم إليه شر مما فررتم عنه، فإن الإقرار بالصانع على أي وجه كان خير من نفيه.
وأيضًا، فإن هذا العالم المشهود، كالسماء والأرض، إن كان قديمًا واجبًا بنفسه فقد جعلتم الجسم المشهود قديمًا واجبًا بنفسه، وهذا شر مما فررتم منه، وإن لم يكن قديمًا واجبًا بنفسه لزم أن يكون له صانع قديم واجب بنفسه، وحينئذ تتضح معرفته وذكره بأن إثبات الرب بالقلب واللسان حق لا ريب فيه سمعًا وعقلا، فإن كان ذلك مستلزمًا لما سميتموه تشبيهًا وتجسيمًا فلازم الحق حق، وإن لم يكن مستلزمًا له، أمكنكم إثباته بدون هذا الكلام .
فظهر تناقض النفاة كيف صرفت عليهم الدلالات، وظهر تناقض من يثبت بعض الصفات دون بعض.
فإن قالت النفاة: إنما نفينا الصفات؛ لأن دليلنا على حدوث العالم وإثبات الصانع دل على نفيها، فإن الصانع أثبتناه بحدوث العالم، وحدوث العالم إنما أثبتناه بحدوث الأجسام، والأجسام إنما أثبتنا حدوثهـا بحدوث الصفات التي هي الأعراض، أو قالوا: إنما أثبتنا حدوثها بحدوث الأفعال التي هي الحركات، وإن القابل لها لا يخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، أو أن ما قبل المجيء والإتيان والنزول كان موصوفًا بالحركة، وما اتصف بالحركة لم يخل منها، أو من السكون الذي هو ضدها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فإذا ثبت حدوث الأجسام قلنا: إن المحدث لابد له من محدث فأثبتنا الصانع بهذا، فلو وصفناه بالصفات أو بالأفعال القائمة به لجاز أن تقوم الأفعال والصفات بالقديم، وحينئذ فلا يكون دليلاً على حدوث الأجسام، فيبطل دليل إثبات الصفات .
فيقال لهم: الجواب من وجوه:
أحدها: أن بطلان هذا الدليل المعين لا يستلزم بطلان جميع الأدلة، وإثبات الصانع له طرق كثيرة لا يمكن ضبط تفاصيلها، وإن أمكن ضبط جملها.
الثاني: أن هذا الدليل لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه، للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين.
الثالث: أن الأنبياء والمرسلين لم يأمروا أحدًا بسلوك هذا السبيل، فلو كانت المعرفة موقوفة عليه وهي واجبة لكان واجبًا، وإن كانت مستحبة كـان مستحبًا، ولو كان واجبًا أو مستحبًا لشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان مشروعًا لنقلته الصحابة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد السادس (العقيدة)