هل التوبة ترفع العقوبة، وهل يكون التائب من المتقين؟
خالد عبد المنعم الرفاعي
قرات في كثير من المرات ان من الممكن ان تحل عقوبه علي العبد العاصي مثل ان يحرم من قيام الليل او يحرم من قراءة القران او من مناجاة الله او اشياء اخري، فهل اذا تاب العبد من المعصيه التي عملها واستغفر ربه عليها هل من الممكن ان تحل عليه هذه العقوبه ايضا؟
- التصنيفات: التقوى وحب الله - التوبة -
قرات في كثير من المرات ان من الممكن ان تحل عقوبه علي العبد العاصي مثل ان يحرم من قيام الليل او يحرم من قراءة القران او من مناجاة الله او اشياء اخري، فهل اذا تاب العبد من المعصيه التي عملها واستغفر ربه عليها هل من الممكن ان تحل عليه هذه العقوبه ايضا؟
وسؤال اخر: علمت ان العبد كلما اذنب وتاب ولو تكرر الذنب مادام يتوب فهو من الصالحين ولكن هل يكون من المتقين ايضا لان الذي اعلمه ان التقي هو الذي يتجنب المعصيه من الاساس.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد دلَّ الكتاب والسنة وإجماع العلماء على أن من تاب لله توبة نصوحًا، واجتمعت فيه شروط التوبة الصادقة- فإن يقبل توبته، تمامًا كما يقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلامًا صحيحًا، قال الله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب، كمن لا ذنب له»؛ رواه ابن ماجه.
إذا تقرر هذا، فالتائب قد درأ عن نفسه العقوبة بالتوبة الصادق.
أما هل يكون المذنب التائب من المتقين، فالجواب قد ورد في أصدق الحديث، القرآن العظيم! فإن الله تعالى أمر بالمسارعة إلى المغفرة وإلى جنة عرضها السماوات والأرض {أعدت للمتقين}، ثم يذكر سبحانه صفات المتقين فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 133 - 135].
"يا لسماحة هذا الدين! إن الله- سبحانه- لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم حتى يطلعهم على جانب من سماحته - سبحانه وتعالى – معهم؛ ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا:
إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين، ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين: {الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}، والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها، ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها، من رحمة الله، ولا تجعلهم في ذيل القافلة، قافلة المؤمنين، إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة، مرتبة المتقين، على شرط واحد، شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته.
أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم، وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة، وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء.
وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله، والاستسلام له في النهاية، فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله.
إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحياناً إلى درك الفاحشة، وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة، وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع.
يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه، حين يرتكب الفاحشة، المعصية الكبيرة، وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفئ، وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف، وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل، وأنه يعرف أنه عبد يخطئ وأن له رباً يغفر.
وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطئ المذنب بخير، إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق، ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل، فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر، فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه، والحبل في يده، ما دام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته.
إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة، ولا يلقيه منبوذًا حائرًا في التيه! ولا يدعه مطرودًا خائفًا من المآب، إنه يطمعه في المغفرة، ويدله على الطريق، ويأخذ بيده المرتعشة، ويسند خطوته المتعثرة، وينير له الطريق، ليفيء إلى الحمى الآمن، ويثوب إلى الكنف الأمين.
شيء واحد يتطلبه: ألا يجف قلبه، وتظلم روحه، فينسى الله، وما دام يذكر الله، ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي، ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي، ما دام في قلبه ذلك الندى البليل- فسيطلع النور في روحه من جديد، وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد، وستنبت البذرة الهامدة من جديد.
إن طفلك الذي يخطىء ويعرف أن السوط - لا سواه - في الدار، سيروح آبقًا شارداً لا يثوب إلى الدار أبداً، فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يدًا حانية، تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب، وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة- فإنه سيعود!
وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه، فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة، وبجانب الثقلة رفرفة، وبجانب النزوة الحيوانية أشواقاً ربانية، فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود، ويربت عليه في لحظة العثرة؛ ليحلق به إلى الأفق من جديد.
ما دام يذكر الله ولا ينساه، ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة! والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة»، والإسلام لا يدعو- بهذا- إلى الترخص، ولا يمجد العاثر الهابط، ولا يهتف له بجمال المستنقع! كما تهتف الواقعية! إنما هو يُقيل عثرة الضعف، ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء، كما يستجيش فيها الحياء! فالمغفرة من الله - ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - تخجل ولا تطمع، وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار" قاله في "ظلال القرآن" (.1/476-477).
هذا؛ والله أعلم.