هل العم ملزم بالإنفاق على بنات أخيه المتوفى
خالد عبد المنعم الرفاعي
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فإن الشارع الحكيم أوجوب نفقة الأبناء وكسوته على كل وارث قريب أو بعيد ي قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، فالآية الكريمة تدل على وجوب نفقة الأبناء على الأب، فإذا أعسر بالنفقة وجبت على زوجته، فإذا أعسرت بالنفقة وجبت على العصبة من الورثة لعموم الآية وقد علق الحكم فيه بمعنى مقصود يقتضى العموم، حيث جعل سبحانه على وارث المولود له، أو وارث الولد من رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف مثل ما على الموروث.
قال الإمام ابن قدامة في "المغني"(8/ 217-218)"
"(وكذلك الصبي إذا لم يكن له أب، أجبر وارثه على نفقته، على قدر ميراثهم منه)، ظاهر المذهب أن النفقة تجب على كل وارث لموروثه، إذا اجتمعت الشروط التي تقدم ذكرنا لها. وبه قال الحسن، ومجاهد، والنخعي، وقتادة، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وأبو ثور. وحكى ابن المنذر، عن أحمد، في الصبي المرضع لا أب له ولا جد، نفقته وأجر رضاعه على الرجال دون النساء. وكذلك روى بكر بن محمد، عن أبيه، عن أحمد: النفقة على العصبات. وبه قال الأوزاعي، وإسحاق. وذلك لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قضى على بني عم منفوس بنفقته. احتج به أحمد.
وقال ابن المنذر: روي عن عمر أنه حبس عصبة ينفقون على صبي الرجال دون النساء؛ ولأنها مواساة ومعونة تختص القرابة، فاختصت بها العصبات، كالعقل.... ولنا، قول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ} [البقرة: 233]، فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد.
وروي أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أبر؟ قال: "أمك وأباك، وأختك وأخاك"، وفي لفظ: "ومولاك الذي هو أدناك، حقًا واجبًا، ورحمًا موصولاً"؛ رواه أبو داود، وهذا نص؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزمه الصلة والبر والنفقة من الصلة، جعلها حقًا واجبًا".
وقال (8/ 219): "إذا لم يكن للصبي أب، فالنفقة على وارثه، فإن كان له وارثان، فالنفقة عليهما على قدر إرثهما منه، وإن كانوا ثلاثة أو أكثر، فالنفقة بينهم على قدر إرثهم منه؛ فإذا كان له أم وجد، فعلى الأم الثلث والباقي على الجد؛ لأنهما يرثانه كذلك... ولنا، قول الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ} [البقرة: 233]، والأم وارثة، فكان عليها بالنص، ولأنه معنى يستحق بالنسب، فلم يختص به الجد دون الأم كالوراثة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "المستدرك على مجموع الفتاوى" (2/ 147):
"قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ} [البقرة: 233] هو الوارث المطلق، وهو العاصب إن كان موجودًا؛ لأن عمر جبر بني عم منغوس على نفقته. وهذه الآية صريحة في إلحاق نفقة الصغير على الوارث العاصب، وقال بها جمهور السلف، وليس فيما خالفها حجة أصلا".
وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" (5/ 484-489) في معرض كلامه على من تجب عليه النفقة من الأقارب:
"وروى النسائي من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك فهكذا وهكذا"، وهذا كله تفسير لقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36]، وقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]، فجعل سبحانه حق ذي القربى يلي حق الوالدين كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء، وأخبر سبحانه أن لذي القربى حقًا على قرابته، وأمر بإتيانه إياه، فإن لم يكن ذلك حق النفقة فلا ندري أي حق هو!
وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القربى، ومن أعظم الإساءة أن يراه يموت جوعًا وعريًا وهو قادر على سد خلته وستر عورته، ولا يطعمه لقمة ولا يستر له عورة إلا بأن يقرضه ذلك في ذمته، وهذا الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم مطابق لكتاب الله تعالى حيث يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، فأوجب سبحانه وتعالى على الوارث مثل ما أوجب على المولود له، وبمثل هذا الحكم حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فروى سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه حبس عصبة صبي على أن ينفقوا عليه، الرجال دون النساء.
وقال عبد الرزاق: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه مثل العاقلة، فقالوا: لا مال له، فقال: ولو، وقوفهم بالنفقة عليه كهيئة العقل، قال ابن المديني: قوله: ولو، أي ولو لم يكن له مال.
وذكر ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: جاء ولي يتيم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "أنفق عليه، ثم قال: لو لم أجد إلا أقضي عشيرته لفرضت عليهم، وحكم بمثل ذلك أيضا زيد بن ثابت.
قال ابن أبي شيبة عن زيد بن ثابت قال: "إذا كان أم وعم فعلى الأم بقدر ميراثها، وعلى العم بقدر ميراثه"، ولا يعرف لعمر وزيد مخالف في الصحابة ألبتة.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]،
قال: على ورثة اليتيم أن ينفقوا عليه كما يرثونه، قلت له: أيحبس وارث المولود إن لم يكن للمولود مال؟ قال: أفيدعه يموت؟!
وقال الحسن: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] قال: على الرجل الذي يرث أن ينفق عليه حتى يستغني، وبهذا فسر الآية جمهور السلف... إلى أن قال: فالنفقة تستحق بشيئين: بالميراث بكتاب الله، وبالرحم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم العطية للأقارب، وصرح بأنسابهم فقال: "وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك، حق واجب ورحم موصولة". اهـ. مختصرًا.
وعليه، فيجب على عم البنات أن ينفق عليهن مع الأم بقدر نصيبه من التركة، فإن كانت الأم عاجزة عن النفقة وجبت عليه إن كان مستطيعًا،، والله أعلم.