ماذا أفعل في قلبي؟

خالد عبد المنعم الرفاعي

فما يجب عليك هو الاستعانة بالله في تحقيق الصبر، ومجاهدة النفس وأخذها بالقوة وأطرها على الحق أطرًا، مع قراءة القرآن العظيم بتدبر.

  • التصنيفات: تربية النفس - أعمال القلوب -
السؤال:

كنت اعمل علي مشروع برمجي منذ اكثر من عشرة اعوام . والان فقط انعم الله علي بالنجاح فيه .ففتحت علي الدنيا من مال وشهرة في عملي و مركز مرموق . ولاكن الان لا اشعر بالسكينه والخوف والترقب الذي كنت انعم بهم .كنت اقوم كل يوم قبل الفجر اصلي وادعي واتوسل لله .الان لا افعل قلبي مليئ بالسعادة المفرطه .اصبحت اتكلم كثيرا واعطي الاوامر لا اهتم باحد .لا اجد السكينه والانس بالله كما كنت منذ شهور . ماذا افعل لاعود كما كنت .

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإن الله تعالى إنما شرع للمؤمنين الفرح بفضله ورحمته؛ لأن نعمة الدين متصلة بسعادة الدارين، بخلاف جميع ما في الدنيا فإنه مضمحل زائل عن قريب.

كما أن الفرح بدين الله تعالى يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى، وقوتها، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما؛ قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، فالفرح المحمود إنما هو بالقرآن والإيمان، وعبادة الله ومحبته ومعرفته، فهو بلا شك خير من متاع الدنيا ولذاتها.

أما الفرح المذموم فهو الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها، أو بالباطل؛ قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75]، وقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُور* وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9، 10]، وقال {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20 ]، وقال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8].

 وقال تعالى عن قارون وقومه: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 76، 77]

أي: لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة، وتفتخر بها، وتلهيك عن الآخرة، فإن الله لا يحب الفرحين بها، المنكبين على محبتها.

{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} أي: تصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات، وتحصيل اللذات، واستمتع بدنياك استمتاعًا لا يَثْلم دينك، ولا يضر بآخرتك، وأحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بهذه الأموال.

فإن ثواب الله على الدنيا الفانية، إنما يكون للذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، وصبروا على جواذب الدنيا وشهواتها، أن تشغلهم عن ربهم؛ قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80].

هذا؛ وقد بين شيخ الإسلام سبب الفرح بإقبال الدنيا، وأن العلاج الناجع هو الصبر؛ فقال في رسالة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(ص: 45):

"وذلك أن الإنسان بين ما يحبه ويشتهيه، وبين ما يبغضه ويكرهه، فهو يطلب الأول بمحبته وشهوته، ويدفع الثاني ببغضه ونفرته، وإذا حصل الأول أو اندفع الثاني أوجب له فرحًا وسرورًا، وإن حصل الثاني أو اندفع الأول حصل له حزن، فهو محتاج عند المحبة والشهوة أن يصبر عن عدوانهما، وعند الغضب والنفرة أن يصبر عن عدوانهما، وعند الفرح أن يصبر عن عدوانه، وعند المصيبة أن يصبر عن الجزع منها".

وقال صاحب الظلال مفسرًا لآيات سورة القصص السابقة:

"في هذا القول جماع ما في المنهج الإلهي القويم، من قيم وخصائص تفرده بين سائر مناهج الحياة.

{لَا تَفْرَحْ}، فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ! لا تفرح فرح البَطر الذي ينسي المُنعم بالمال، وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران، لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيشغل به قلبه، ويطير له لُبه، ويتطاول به على العباد.

{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، فهم يردونه بذلك إلى الله، الذي لا يحب الفرحين المأخوذين بالمال، المتباهين، المتطاولين بسلطانه على الناس.

{وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا}، وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم، المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة، بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفًا، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.

لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس، وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض؛ ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها، والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.

وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكِّنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة.

{وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، فهذا المال هبة من الله وإحسان؛ فليقابل بالإحسان فيه، إحسان التقبل وإحسان التصرف، والإحسان به إلى الخلق، وإحسان الشعور بالنعمة، وإحسان الشكران.

{وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ}، الفساد بالبغي والظلم، والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة.

والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء، والفساد بإنفاق المال في غير وجهه، أو إمساكه عن وجهه على كل حال".

إذا عرف هذا، فما يجب عليك هو الاستعانة بالله في تحقيق الصبر، ومجاهدة النفس وأخذها بالقوة وأطرها على الحق أطرًا، مع قراءة القرآن العظيم بتدبر.

ومن أعظم ما يعينك أيضًا على اقتلاع الحب المذموم للدنيا هو تحقيق الافتقار لله، فتنظر إلى سبق فضل الله، فأَولية الله عَزَّ وجَلَّ سابقة على أَولية كل ما سواه، حتى الخطرة واللحظة والنفس، وأَدنى من ذلك وأكثر؛ وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه: "اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر".

قال الإمام ابن القيم في كتابه "طريق الهجرتين"(ص: 24-26):

"فهذه الأَسماءُ الأَربعة تشتمل على أَركان التوحيد، والتعبد بهذه الأَسماءِ رتبتان: الرتبة الأولى: أَن تشهد الأَولية منه تعالى في كل شيء، والآخرية بعد كل شيء، والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب والدنو دون كل شيء.

والمرتبة الثانية من التعبد: أَن يعامل كل اسم بمقتضاه، فيعامل سبقه تعالى بأَوليته لكل شيء، وسبقه بفضله وإِحسانه الأَسباب كلها؛ بما يقتضيه ذلك من إِفراده وعدم الإِلتفات إِلى غيره، والوثوق بسواه والتوكل على غيره، فمن ذا الذى شفع لك فى الأَزل - حيث لم تكن شيئاً مذكوراً - حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإِيمان، وجعلك من أَهل قبضة اليمين، وأَقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأَعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إِليه تبارك وتعالى دون ما سواه، فاضرع إِلى الذى عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق في القدم، أَن يتم عليك نعمة هو ابتدأَها وكانت أَوليتها منه بلا سبب منك، واسمُ بهمتك عن ملاحظة الاختيار، ولا تركنن إِلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون، وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إِلا بطاعة الله؛ فإن الله عز وجل قضى أن لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أَقبل إِليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته أَلان له الحديد، ومن ترك لأَجله أَعطاه فوق المزيد، ومن أَراد مراده الديني أَراد ما يريد، ثم اسم بسرك إِلى المطلب، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإِحسانه إِليك كل سبب منك، بل هو الذى جاد عليك بالأسباب، وهيأَ لك وصرف عنك موانعها وأَوصلك بها إلى غايتك المحمودة؛ فتوكل عليه وحده وعامله وحده، وآثر رضاه وحده، وأجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفاً بها، مستلماً لأركانها، واقفاً بملتزمها، فيا فوزك ويا سعادتك إِن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك، ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخلع أفضاله...... إلى أن قال:

فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته، فلا يرى لغيره شيئاً إِلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إِليه، أَو يتحلى به، أَو يتخذه عقدة، أَو يراه ليوم فاقته، أَو يعتمد عليه في مهم من مهماته؛ فكل ذلك من قصور نظره، وانعكاسه عن الحقائق والأَصول إِلى الأَسباب والفروع، كما هو شأَن الطبيعة والهوى، وموجب الظلم والجهل، والإِنسان ظلوم جهول، فمن جلى الله سبحانه صدأَ بصيرته، وكمَّل فطرته، وأوقفه على مبادئ الأُمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها: أَصبح كمفلس حقاً من علومه وأَعماله، وأَحواله وأَذواقه؛ يقول: أَستغفر الله من علمي ومن عملي، أَي من انتسابي إِليهما، وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما وابتدأَني بإعطائهما، من غير تقدم سبب منى يوجب ذلك؛ فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه".

هذا؛ والله أعلم.