حكم طلب العلم عند المبتدع في غير مجال بدعته

خالد عبد المنعم الرفاعي

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... هل هناك محرم في مسألة طلب العلم عند من عُرف ببدعه او مخالفه ولكن هذا العلم الذي يطلب عنده ليس في مجال بدعته.. يعني هل هذا مكروه ام محرم

الإجابة:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:

وقد حذَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أخذ العلم عن أهل البدع، وعدَّ ذلك من أشراط الساعة؛ حيث فقال- صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ من أشراط السَّاعة أن يُلتمسَ العِلم عند الأصاغر"؛ رواه الطبراني في "الكبير" وابن المبارك في "الزهد" عن أبي أمية الجُمَحِيِّ، وصحَّحه الألبانِيُّ في الصحيحة. قال عبد الله بن المبارك: "الأصاغر أهل البدع".

وروى الطَّبَرَاني، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن مسعود قال: "لن يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قِبَلِ أكابرهم، وذوي أسلافهم، فإذا أتاهم من قِبَلِ أصاغرهم هلكوا".

وقال عمر بن الخطاب - رضي اللهُ عنه -: "إنَّ النَّاسَ بِخَير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، ولم يَقُمِ الصغيرُ على الكبير، فإذاقام الصغير على الكبير فَقَدْ - أي: فقد هلكوا -" رواه اللالَكَائِيُّ في "السنة".

وروى مسلم في مقدمة صحيحه عن محمد بن سيرين قال: "إنَّ هذا العلمَ دِينٌ فانظروا عمن تأخذون دينكم".

وقال بَهْزُ بن حكيم: "دين الله أحقُّ ما طُلِبَ له العُدول".

وقال الشافعي - رحمهُ اللهُ -: "إنما يَتَكَلَّمُ في هذا الدين مَنْ كان مأمونًا علىعُقْدَة هذا الدين".

وقد كان السلف الصالح - رحمهم الله - ينتقون المشايخ الذين يأخذون عنهم العلم ويحذرون من أهل البدع والأهواء، وربما تجنَّبوا بعضَ العلماء الصالحين الذين عندهم بعضُ التغفُّل؛ فقد روى ابن عبد البر في "التمهيد" والذهبي في "السير" أنَّ الإمامَ مالكًا - رحمه الله تعالى - كان يقول: "إن هذا العلم دينٌ، فانظروا عمن تأخذونه ... ولقد أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - سبعينَ ممَّن يقول: قال فلان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ أحدَهم لوِ اؤتُمِنَ على بيتِ مالٍ لكانَ به أمينًا، فما أخذت منهم شيئًا؛ لأنهم لم يكونوا من أهل هذه الشأن، فلما قدِم علينا محمد بن شهاب الزهري، ازدحمنا على بابه، وكان شابًّا". اهـ.

وقال الخطيب البغدادي: "ينبغي للمتعلِّم أن يقصد مِن الفقهاء مَن اشتهر بالديانة، وعُرِفَ بالستر والصيانة".

وفي سنن الدارمي عن أسماء بن عبيد قال: "دخل رجلان من أصحاب الأهواء على ابن سيرين فقالا: يا أبا بكر: نُحَدِّثُكَ بحديث؟ قال: لا، قالا: فنقرأ عليكَ آيةً من كتاب الله؟ قال: لا، لَتَقُومانِّ عَنِّي أو لأقومَنَّ، قال: فخرجا، فقال بعض القوم: يا أبا بكر: وما كان عليك أن يقرآ عليك آية من كتاب الله تعالى؟! قال: إني خشيت أن يقرآ علي آية فيُحَرِّفانِها فيقرَّ ذلك في قلبك".

وهذا هو مكمن الخطر في التلقي عند المبتدع حتى في غير تخصصه؛ لأنه مشغول بدس بدعته في كل ما يتكلم فيه، والأمثل على ذلك أكثر من تحصى، فعلماء الكلام الذين صنفوا في أصول الفقه نقلوا بدعهم لهذا العلم الشريف، وأصلوا مسائل كثيرة من أجل بدعهم، وكذلك من صنف منهم في اللغة وغيرها، حرصوا على تأصيل بدعهم في اللغة، وهكذا.

والسبب في هذا؛ أن أصل البدعة اتباع الهوى، وهي أبرز صفاتهم التي تدفعهم إلى تحريف العلوم: اتباع الهوى: ، قال الله تعالى في وصفهم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، ثم اتباع المتشابه كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].

قال العلامة الدكتوربكر أبو زيد في كتابه "حلية طالب العلم" (ص: 165): تحت عنوان – التلقي عن المبتدع -: "احذر أبا الجهل المبتدع، الذي مسَّه زيغُ العقيدة، وغَشِيَتْهُ سُحُبُ الخرافة، يُحَكّم الهوى ويسمِّيه العقلَ، ويعدل عن النص، وهل العقل إلا في النص؟! ويستمسك بالضعيف ويبعد عن الصحيح، ويقال لهم أيضًا: أهل الشبهات، وأهل الأهواء".

وقال (ص: 166-168): "فيا أيها الطالب! إذا كنت في السعة والاختيار؛ فلا تأخذ عن مبتدعٍ: رافض، أو خارجيٍّ، أو مرجئ، أو قَدَرِيٍّ، أو قُبُورِيٍّ، وهكذا، فإنك لن تبلغ مبلغ الرجال - صحيحَ العَقْدِ في الدين، مَتِينَ الاتصالِ بالله، صحيحَ النظر، تقفو الأثر - إلا بهجر المبتدعة وبدعهم.

وكُتُبُ السِّيَرِ والاعتصام بالسنة حافلة بإجهاز أهل السنة على البدعة، ومنابذة المبتدعة، والابتعاد عنهم، كما يبتعد السليم عن الأجرب المريض، ولهم قصص وواقعيات يطول شرحها، لكن يطيب لي الإشارة إلى رؤوس المقيَّدات فيها:

فقد كان السلف - رحمهم الله تعالى - يحتسبون الاستخفاف بهم، وتحقيرهم ورفض المبتدع وبدعته، ويحذرون من مخالطتهم، ومشاورتهم، ومؤاكلتهم، فلا تَتَرَاءَى نارُ سُنِّيٍّ ومبتدِعٍ.

وأخبار السلف متكاثرة في النفرة من المبتدعة وهجرهم؛ حَذَرًا من شرهم، ومنْعًا منَ انتشار بدعهم، وكسْرًا لنفوسهم حتى تضعف عن نشر البدع، ولأن في معاشَرة السني للمبتدع تزكيةً له لدى المبتدئ والعاميِّ، والعاميُّ بيد من يقوده غالبًا.

 قال: أما الأخذ عن علماء السنة، فالعقِ العسل ولا تسل. وفقك الله لرشدك لتنهل منميراث النبوة صافيًا، وإلا ؛ فليبك على الدين من كان باكياً". اهـ. مختصرا من "حلية طالب العلم".

هذا؛ والله أعلم.