هل يمكنني المكوث في بيتي بعد وفاة زوجي؟

خالد عبد المنعم الرفاعي

إقامة الأرملة في منزل أهل زوجها بعد وفاته لها حكم الضيافة، والأحاديث النبوية المطهرة متظاهرة على الأمر بالضيافة، والاهتمام بها، وعظيم موقعها، وأنها من مكارم الأخلاق، ولكنها مقدرة بمدة محددة.

  • التصنيفات: محاسن الأخلاق - أحكام النساء -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اما بعد انا ارملة ذات 25 سنة توفي زوجي العام الماضي ولم استطع التخلي عن منزلي لما يحمله من ذكريات ولانني بت ارتاح فيه فقط مع العلم انه لا اولاد عندي وان منزلي في نفس البناية مع اهل زوجي لنا مدخل واحد تسكن ام زوجي وابوه واخواه في اول طابق وانا بالثاني واخوه المتزوج بثالث طابق لكن ليس لي مطبخ فانا اطبخ مع ام زوجي في الاسفل ومع العلم انني اتحجب عن اخوانه الى الان وكلامنا لا يتعدى التحية وعلاقتي باهل زوجي طيبة ومن شدة تعلقي بهم وتعلقهم بي لم يرضو ان اتركهم ولا انا كذلك على ان نصلح المطبخ بطابق منزلي لابقى مع ابواه و يتزوج اخواه بالدور الارضي لكن كثيرا ما احاول كبح مشاعر والتفكير بمنطقية وبانني اخذت منزلا ليس من حقي وانني اعرقل زواج اخوه الاكبر وانه يبقى في الاخير ملكا لاهله من ورثة وانه مهما طال عمر والديه لن يدوما لي اما اهلي عندما استشرتهم راو نفس الشيء لكن لا يريدون ان يضغطو علي وانا لا اريد ان اكون بهذا اغضب الله او اتعدى على حدوده فارجوكم ان ترشدوني الى الصواب و جزاكم الله خيرا

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فالذي يظهر أن إقامة الأرملة في منزل أهل زوجها بعد وفاته لها حكم الضيافة، والأحاديث النبوية المطهرة متظاهرة على الأمر بالضيافة، والاهتمام بها، وعظيم موقعها، وأنها من مكارم الأخلاق، ولكنها مقدرة بمدة محددة؛ ففي الصحيحين عن أبي شريح الكعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه"، وقوله: "يثوي": أي يقيم، وقوله: "يحرجه" أي: يضيق عليه حسًا ومعنى.

 وفي رواية لمسلم: "الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه"، قالوا: يا رسول الله، وكيف يؤثِّمه؟ قال: "يقيم عنده ولا شيء له يقريه به".

والمتأمل لهذه الأحاديث يدرك أن المضيف إذا تبرع بالاستضافة، فلا حرج على الضيف من الإقامة حينئذ؛ ومما يؤيد هذا الحكم ما ورد عن جماعة من الصحابة منهم عم أبى حمرة الرقاشى، وأبو حميد الساعدى، وعمرو بن يثربي، وعبد الله بن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"، وهو في مسند أحمد وغيره.

هذا؛ والذي ننصح به الأخت السائلة أن تطوي تلك الصفحة بحلوها ومرها، ولتستعيني بالله تعالى في تحقيق ذلك بالفرار إلى حماه، فإن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وأن ما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، بهذا تجدين برد اليقين، وتتجاوزين تلك المرحلة؛ قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23]، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، قال بعض السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.

ثم إن الإقامة في منزل الزوجية بعد وفاة الزوج - وأنت ما زلت في شرخ الشباب – ليس إلا اجترار للأحزان، ولن يغير من واقع الأمر شيئًا، فهو من كلمات الله الكونية ومشيئته في خلقه التي لا تتبدل، وهو وحده صاحب الأمر المتصرف؛ كما قال تعالى: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام: 34].

هذا؛ وسأنقل لك كلاما نفيسا لشيخ الإسلام ابن القيم في كتابه زاد المعاد (4/ 173-178) قال: 

"في هديه - صلى الله عليه وسلم - في علاج حر المصيبة وحزنها:

قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155، 156]، وفي المسند عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا أجاره الله في مصيبته، وأخلف له خيرا منها".

وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته:

أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير.

وأيضًا: فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير.

وأيضًا: فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه، حتى يكون ملكه حقيقة، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يبقي عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي.

وأيضًا: فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.

والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فردًا كما خلقه أول مرة: بلا أهل، ولا مال، ولا عشيرة، ولكن بالحسنات، والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته، فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

ومن علاجها: أن ينظر إلى ما أصيب به، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله، أو أفضل منه، وادَّخر له - إن صبر ورضي - ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.

ومن علاجها: أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة؟ وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا ساءت دهرًا وإن متعت قليلًا، منعت طويلًا، وما ملأت دارًا خيرة إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحًا إلا ملئ ترحًا"، وقال ابن سيرين: "ما كان ضحك قط، إلا كان من بعده بكاء".

وقالت هند بنت النعمان: لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكًا، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس وأنه حق على الله ألا يملأ دارًا خيرة إلا ملأها عبرة.

وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت: "أصبحنا ذا صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا".

 ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع لا يردها، بل يضاعفها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض.

ومن علاجها: أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم، وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر، والاسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة.

ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه ورده خاسئًا وأرضى ربه وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه، وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، لا لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بالويل، والثبور، والسخط على المقدور.

ومن علاجها: أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه، فلينظر: أي المصيبتين أعظم؟ وقال: بعض السلف لولا مصائب الدنيا لوردنا القيام مفاليس.

ومن علاجها: أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله، فإنه من كل شيء عوض إلا الله، فما منه عوض كما قيل:

 من كل شيء إذا ضيعته عوض ... وما من الله إن ضيعته عوض

ومن علاجها: أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط، فحظك منها ما أحدثته لك فاختر خير الحظوظ، أو شرها، فإن أحدثت له سخطًا وكفرًا؛ كتب في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جزعًا وتفريطًا في ترك واجب أو فعل محرم؛ كتب في ديوان المفرطين، وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر؛ كتب في ديوان المغبونين، وإن أحدثت له اعتراضًا على الله وقد حار في حكمته؛ فقد قرع باب الزندقة أو ولجه، وإن أحدثت له صبرًا وثباتًا لله، كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرضى عن الله، كتب في ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمد والشكر؛ كتب في ديوان الشاكرين، وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين، وإن أحدثت له محبة واشتياقًا إلى لقاء ربه، كتب في ديوان المحبين المخلصين.

ومن علاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته، فآخر أمره إلى صبر الاضطرار، وهو غير محمود ولا مثاب، قال بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم.

ومن علاجها: أن يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له، وأن خاصية المحبة وسرها موافقة المحبوب، فمن ادعى محبة محبوب ثم سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه فقد شهد على نفسه بكذبه وتمقت إلى محبوبه.

ومن علاجها: أن يوازن بين أعظم اللذتين، والمتعتين وأدومهما: لذة تمتعه بما أصيب به، ولذة تمتعه بثواب الله له، فإن ظهر له الرجحان فآثر الراجح، فليحمد الله على توفيقه، وإن آثر المرجوح من كل وجه فليعلم أن مصيبته في عقله، وقلبه، ودينه أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه". اهـ. مختصرًا.

هذا؛ والله أعلم.