استشارة في الزواج من فتاة ذات عيب خلْقي في النطق

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة ألله انا شاب عندي 27 سنة الحمد لله انا علي قدر من الالتزام في الدين وفي الحياة من سنتين تقريبا كنت قد خطبت ولكن لم يتم الأمر حيث إنني فسخت الخطوبة وكان السبب الرئيس هو عدم القبول على الرغم من أنها كانت فتاة في قمة اللباقة والأخلاق والشخصية الحسنة والتفكير العالي ولكن أنا رفضت الموضوع لعدم قبولها الشكلي بعد صراع كبير مع النفس لمحاولة التأقلم مع الوضع وأن الشكل ليس الأساس وكلام من هذا االقبيل ولكني لم أستطع فقررت فسخ الخطبة بطريقة لا تجرح الفتاة المهم حاليا انا خاطب من ثلاث أشهر تقريبا هي فتاة على قدر من الجمال الشكلي وهي ذات أخلاق طيبة ونسب طيب وأهل صالحين وإنني والله لم أجد أخير من هؤلاء النآس ولكن المشكلة هى في بعض الأمور التي اكتشفتها في الفتاة ولمن تكن ظاهرة في الرؤية عندها مشكلة خلقية في نطق الكلام اكتشفتها مؤخرا وكنت أشعر بشئ غريب في كلامها وعندها بروز في الفك السفلي وانسداد حاد في الجيوب الأنفية فكل هذا مسبب لمشكلة في الكلام ذات الرنين العالي وهي قد تتطبعت على الكلام بطريقة صعبة أكاد لا أفهم بعض الكلام منها وهذا يسبب لي عدم الارتياح. أهلي يقولون لي لا تتركها لأنها فتاة من أصل طيب وأيضا لأنهم يخافون من كلام الناس وكثرة القيل والقال ولكن أفكر دائما بأنني لن استطيع التعايش مع هذا الوضع حيث أنني لا ارتاح عند الحديث معها على الرغم ما بها من صفات فأود أن أستشيركم ماذا أفعل

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فإن من محاسن الشريعة الإسلامية أنها أباحت النظر والاختيار للرجل والمرأة حتى يشعرا بالارتياح، فلم يسقط اعتبار الجمال عند الاختيار، لأن به يحصل تمام العفاف للزوجين، كما روى أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره"، مع الحرص على أن تكون المرأة صاحبة خلق ودين؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"، فحرص الشارع على حسن الاختيار، واعتبار الحسن الظاهر وهو جمال الصورة، والحسن الباطن وهو الدين والخلاق؛ نظرًا لطول العشرة، ومن ثم أمره النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بتحْصيل صاحبةِ الدِّين، واللاَّئق بذي الدين والمروءة أن يكون الدِّين مطمح نظرِه في كلِّ شيْءٍ، لاسيَّما فيما تطول صحبتُه، كما قال الحافِظ ابنُ حجر، وقال الشَّوكاني في "النيل": "ولهذا قيل: إنَّ معنى حديث الباب الإخْبار منه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بِما يفعلُه النَّاس في العادة، فإنَّهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدِّين، فاظفر - أيُّها المسترشِد - بذات الدين".

أما ما يبدو عليك من تردد تجاه من تخطبهم فسببه هو السعي في تحصيل الكمال فيما لا سبيل إلى حصوله، فالنساء من نعيم الدنيا وهو ناقص بالذات، ومحال أن يوجد مراد تام، ومن لم يتحلى بالقناعة مهما أمكن فلن يحقق مراده؛ فإن الكمال التام إنما هو في جنة الخلد؛ قال الله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]، فوصف الله تعالى نساء الآخرة بأكمل وصف وأوجزه، أما نعيم الدنيا فناقص دائمًا؛ وقس حال المرأة بحال الرجال، فلا تكاد تجد في رجل خلقا ترضاه، إلا ووجدت أضعافه مما تكره، فالقناعة مهما أمكن فيها سلامة الدنيا والدين.

ولا شك أن الرضا والقناعة يحتاج لتَهْذِيب النفس، وَمُجَاهَدَتها، وأخْذِها بالقوة، وتَرويضِها، وفَطْمِهَا، والتأمل في سنة النبي الله صلى الله عليه وسلم، مثل: "وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس"، واه أحمد والترمذي، "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر" أو قال: "غيره"؛ رواه مسلم،"وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج"؛ رواه البخاري ومسلم، إلى غير هذا من الأحاديث التي تحث على كَمَالِ العَقْلِ والصَّبرِ والبَصيرَةِ والواقعية.

 فالصفات الجميلة لا نهاية لها، ومحال أن تجتمع في امرأة واحدة، والعاقل من فاضل بين هذه الصفات، فقدم المهم فالأهم، مع الحرص على الظفر بأحسنها، وإن كان فيها من الصفات ما لا ترضاه، وإلا فلن تعجبك أي فتاة حتى تمر بك السنون سريعًا ويتقدم بك العمر، فتجد نفسك مجبرًا على الارتباط بما يفرض عليك!

وتأمل ما كتبه الإمام أبو الفرج بن الجوز في هذا الصدد فقال في "صيد الخاطر" (ص: 309-310):

"أكثر شهوات الحس النساء، وقد يرى الإنسان امرأة في ثيابها، فيتخايل له أنها أحسن من زوجته، أو يتصور بفكره المستحسنات، وفكره لا ينظر إلا إلى الحسن من المرأة، فيسعى في التزوج والتسري، فإذا حصل له مراده، لم يزل ينظر في العيوب الحاصلة، التي ما كان يتفكر فيها، فيمل، ويطلب شيئًا آخر، ولا يدري أن حصول أغراضه في الظاهر ربما اشتمل على محن، منها أن تكون الثانية لا دين لها، أو لا عقل، أو لا محبة لها، أو لا تدبير، فيُفوت أكثر مما حصَّل!

وهذا المعنى هو الذي أوقع الزناة في الفواحش؛ لأنهم يجالسون المرأة حال استتار عيوبها عنهم، وظهور محاسنها، فتلذهم تلك الساعة، ثم ينتقلون إلى أخرى!

فيلعلم العاقل أن لا سبيل إلى حصول مراد تام، كما يريد؛ {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267]، وما عيب نساء الدنيا بأحسن من قوله عز وجل: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]، وذو الأنفة يأنف من الوسخ صورة، وعيب الخلق معنى، فليقنع بما باطنه الدين، وظاهره الستر والقناعة، فإنه يعيش مرفه السر، طيب القلب، ومتى استكثر؛ فإنما يستكثر من شغل قلبه، ورقة دينه". اهـ.

وقال أيضًا (ص: 333): "أن النفس لا تقف عند حد؛ بل تروم من اللذات ما لا منتهى له، وكلما حصل لها غرض، بَرَدَ عندها، وطلبت سواه، فيفنى العمر، ويضعف البدن، ويقع النقص، ويرق الجاه، ولا يحصل المراد، وليس في الدنيا أبله ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا، وليس في الدنيا على الحقيقة لذة، إنما هي راحة من مؤلم.

فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية، فمال إليها، ومالت إليه، وعلم سترها ودينها: أن يعقد الخنصر على صحبتها، وأكثرُ أسباب دوام محبتها ألا يطلق بصره، فمتى أطلق، أو أَطمع نفسه في غيرها، فإن الطمع في الجديد ينغص الخَلِق، وينقص المخالطة، ويستر عيوب الخارج، فتميل النفس إلى المشاهد الغريب، ويتكدر العيش مع الحاضر القريب، كما قال الشاعر:

والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحبًا بسرورٍ عاد بالضرر

ثم تصير الثانية كالأولى، وتطلب النفس ثالثة، وليس لهذا آخر، بل الغض عن المشتهيات، ويأس النفوس من طلب المستحسنات: يطيب العيش مع المعاشر.

ومن لم يقبل هذا النصح، تعثَّر في طُرق الهوى، وهلك على البارد، وربما سعى لنفسه في الهلاك العاجل، وفي العار الحاضر، فإن كثيرًا من المستحسنات لسن بصينات، ولا يفي التمتع بهن بالعار الحاصل، ومنهن المبذرات في المال، ومنهن المبغضة للزوج، وهو يحبها كعابد صنم". اهـ.

إذا تحرر هذا، فليس هناك سبب يدعوك لعدم الرضا بهذه الفتاة إلا عدم القناعة بما قُسِمَ لك! وقد يكون سببه عدم التواضع، أو عدم الإدراك التام لنعيم الدنيا، وتأمل منطق القرآن العظيم: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ}، فالغِنى غِنى النفسِ، كما صحّ عن النبي، وليس بكثرةِ العرضِ ولا بالأموالِ ولا بالمنصبِ، فكذلك الرضا بالمرأة، فقد ذكرت: "أنها على قدر من الجمال ذات اخلاق طيبة ونسب طيب وأهل صالحين...لم أجد أخير من هؤلاء النآس، وأهلك متمسكون بها، فليس هناك ما يدعو لعدم راحة النفسِ ورضاها بما قَسَمَ الله لك؟

ولتعلم أن النفس بغير القناعة لا تشبع ولو ملكت الدنيا، وما دام المرء لم يشبع فإنه يشعر بالضيق والكآبة، كأنه لا يملك شيئًا، فليس أمامك وسيلة لإشباع النفس إلا امتلاك القناعة والرضا، ما أسرع ما تتكيَّف مع واقعِك، وتتأقلم مع ما تشتكي منه وتستمر الحياة.

أما إن أبيت إلا الرفض، وتركت خطيبتك وبحثت عمن هي خير منها، فستكتشف بعد حين أن بها عيبًا أو أكثر، وهكذا دواليك، والأمر أعجل من هذا، والشارع الحكيم لم يتركنا وشأننا في هذا الأمر الخطير؛ فقال: "فاظفر بذات الدين تربت يداك"،، والله أعلم.