ما معنى كتمان العلم
خالد عبد المنعم الرفاعي
هل المقصود بالآيتين الذين يكتمون العلم اذ سألهم احدا ام اذا لم يسألهم أحد ايضا؟: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174]
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فإن سبب نزول الآيتين الكريمتين أن أحبار اليهود ورهبان النصارى كَتَمُوه الناسَ نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمهم به مع وُجُود صِفَتَه في كُتُبهم - فقال الله جل ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]،
وأيضًا قد ذم كتم بعض أهل الكتاب ما عندهم من الخبر والشهادة لإبراهيم وأهل بيته، وكتموا إسلامهم، قال سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174].
قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (3/ 249): "يعني بقوله: "إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا منَ البينات"، علماءَ اليهود وأحبارَها، وعلماءَ النصارى، لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، و"الْبَيِّنَاتِ" التي أنزلها الله: ما بيّن من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته، في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أنّ أهلهما يجدون صفته فيهما... إلى أن قال (3/ 251):
"وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاصٍّ من الناس، فإنها معنيٌّ بها كل كاتمٍ علمًا فرضَ الله تعالى بيانه للناس.
وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالن سُئل عَن علم يَعلمهُ فكتمه، ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار".
وكان أبو هريرة يقول: "لولا آيةٌ من كتاب الله ما حدَّثتكم! وتلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآيةَ". اهـ. مختصرًا.
وقال القرطبي في "تفسيره" (2/ 185):
"وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام.
وتحقيق الآية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره، وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث".
هذا؛ وقد دلت الآيتان الشريفتان على أنه يجب على علماء الأمة حفظ علم الدين وتبليغه؛ فإذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه، كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (28/ 187-189):
"فإن ضرر كتمانهم تعدى إلى البهائم وغيرها، فلعنهم اللاعنون حتى البهائم؛ كما أن معلم الخير يصلي عليه الله وملائكته ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف البحر والطير في جو السماء.
وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم، وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم، وتصرف القلوب عن اتباعهم وتقتضي متابعة الناس لهم فيها؛ هي من أعظم الظلم ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم؛ لأن إظهار غير العالم - وإن كان فيه نوع ضرر - فليس هو مثل العالم في الضرر الذي يمنع ظهور الحق ويوجب ظهور الباطل؛ فإن إظهار هؤلاء للفجور والبدع بمنزلة إعراض المقاتلة عن الجهاد ودفع العدو؛ ليس هو مثل إعراض آحاد المقاتلة؛ لما في ذلك من الضرر العظيم على المسلمين، فترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم، كلاهما ذنب عظيم؛ وليس هو مثل ترك ما تحتاج الأمة إليه مما هو مفوض إليهم؛ فإن ترك هذا أعظم من ترك أداء المال الواجب إلى مستحقه، وما يظهرونه من البدع والمعاصي التي تمنع قبول قولهم وتدعو النفوس إلى موافقتهم وتمنعهم وغيرهم من إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أشد ضررًا للأمة وضررًا عليهم من إظهار غيرهم لذلك، ولهذا جبل الله قلوب الأمة على أنها تستعظم جبن الجندي
وفشله وتركه للجهاد ومعاونته للعدو: أكثر مما تستعظمه من غيره، وتستعظم إظهار العالم الفسوق والبدع: أكثر مما تستعظم ذلك من غيره". اهـ.
إذا تقرر هذا؛ فالواجب على أهل العلم بيان الحق وعدم كتمانه، وكذلك يجب القول فيما سُئلوا عنه مما يعلمونه، ويجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالله تعالى أخذ على أهل العلم الميثاق بأن يبينوا العلم ولا يكتموه، وذم كاتميه فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، وفي الآيتين السابقتين لعن كاتمه، فكل من كتم الحق وأخفاه، أو أظهر خلاف ما أبطن، أو سكت عن بيان الحق: كان كاتمًا لما أنزل الله،، والله أعلم.