هل ورد أن المنجمين عرفوا بمولد إبراهيم عليه السلام وحذروا النمرود منه
الإسلام سؤال وجواب
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات -
كنت قد نشرت مقالاً على " الفيس بوك " أحذر فيه الإخوة والأخوات من المنجمين وعلم التنجيم، ثم قام أحد الإخوة فردّ عليّ ونشر مقالاً وذكر فيه أشياء غريبة، وأريد أن أسألكم عنها . فقد ذكر الأخ في مقالته - التي اقتبسها من مصدر شيعي - أن إبراهيم عليه السلام ولد في سوريا في زمن النمرود، وكان النمرود يدّعي الألوهية آنذاك، وأخبره المنجمون أن صبياً سيولد، وسيقوّض ملكه، ويدعو الناس إلى الكفّ عن عبادة غير الله، فبدء النمرود بالبحث عن هذا الصبي...الخ. ثم تساءل هذا الأخ وقال: كيف استطاع المنجمون أن يتنبؤوا بمولد إبراهيم عليه السلام؟ عموماً، أنا لا أتفق مع معظم ما جاء في هذه المقالة: أولاً لأنها أخذت من مصدر شيعي، وهذا المصدر لا شك أنه غير موثوق.
ثانياً: لأن إبراهيم عليه السلام - على حد علمي - ولد في بابل العراق، وليس في سوريا. كما أني لم أستطع أن أجد أصل قصة المنجمين هذه التي ذكرها، فلا ندري إذاً إن كانت صحيحة أم إنها كذبة من كذبات الشيعة. لذلك أريد منكم - مشكورين - إلقاء الضوء على هذا الموضوع والتفصيل فيه، حتى إذا رددت على هذا الأخ أردّ بعلم ومعرفة . وجزاكم الله خيراً.
أولا:
يقسم أهل العلم علم النجوم إلى نوعين:
النوع الأول: العلم بأسماء النجوم، ومطالعها، ومساقطها، ودلالتها على الزمان والمكان والاتجاه، ونحو ذلك من الأمور المحسوسة، التي دلت التجربة المشاهدة المنضبطة على تلازم النتيجة فيها مع المعطيات، وتأثير الأسباب فيها بالنتائج على الوجه الظاهر المناسبة.
وهذا النوع لا بأس بتعلمه وتعليمه، ولم ترد الأدلة بالنهي عنه، ولا كراهة النظر فيه، بل جاء في القرآن الكريم ما يدل على إباحته وامتنان الله عز وجل به على الناس، حيث يقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام/97]. ويقول سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس/5].
النوع الثاني: الاستدلال بمواقع النجوم وسيرها الفلكي على الحوادث الأرضية: من موت، أو ولادة، أو انتشار بلاء، أو وقوع فاجعة، أو تحقق سعادة، ونحو ذلك من الأمور التي لا يظهر وجه عقلي تجريبي لارتباطها بالأحوال الفلكية، وإنما هي التخرصات والظنون التي لم تُثبتها الأدلة والبراهين.
وهذا النوع هو الذي جاءت الأدلة الشرعية على تحريم تعاطيه، وتحريم تعلمه وتعليمه والنظر فيه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" صناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير، وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، والتمزيج بين القوى الفلكية والقوابل الأرضية: صناعة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين في جميع الملل، قال الله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه/69] ، وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء/51]. قال عمر وغيره: الجبت: السحر.
وروى أبو داود في سننه بإسناد حسن عن قبيصة بن مخارق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنْ الْجِبْتِ» قال عوف راوي الحديث: العيافة زجر الطير؛ والطرق: الخط يخط في الأرض. وقيل بالعكس.
فإذا كان الخط ونحوه الذي هو من فروع النجامة من الجبت؛ فكيف بالنجامة! وذلك أنهم يولدون الأشكال في الأرض؛ لأن ذلك متولد من أشكال الفلك.
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ»، فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر؛ وقد قال الله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه/69]، وهكذا الواقع؛ فإن الاستقراء يدل على أن أهل النجوم لا يفلحون؛ لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وروى أحمد ومسلم في الصحيح عن صفية بنت عبيد؛ عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ) والمنجم يدخل في اسم العراف عند بعض العلماء، وعند بعضهم هو في معناه. فإذا كانت هذه حال السائل فكيف بالمسئول.
وروى أيضا في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله! وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ. قَالَ «فَلَا تَأْتِهِمْ».
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان الكهان، والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، وحكي ذلك عن العرب، وعند آخرين هو من جنس الكاهن وأسوأ حالا منه فلحق به من جهة المعنى.
وقد حكى الإجماع على تحريمه غير واحد من العلماء: كالبغوي، والقاضي عياض؛ وغيرهما.
وفي الصحيحين عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ( صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ» ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ: فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ: فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا: فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي، وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ».
وقد اعترف رؤساء المنجمين من الأولين والآخرين أن أهل الإيمان أهل العبادات والدعوات يرفع الله عنهم - ببركة عباداتهم ودعائهم وتوكلهم على الله - ما يزعم المنجمون أن الأفلاك توجبه.
ويعترفون أيضا بأن أهل العبادات والدعوات ذوي التوكل على الله يعطون من ثواب الدنيا والآخرة ما ليس في قوى الأفلاك أن تجلبه.
فالحمد لله الذي جعل خير الدنيا والآخرة في اتباع المرسلين، وجعل خير أمة هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (35/192-196)
ثانيا:
جميع ما سبق لا ينفي أن يصيب المنجم في بعض ما يخبر به من الحوادث أنه كائن، فيقع كما أخبر به، ولكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال صحة المسلك الذي اتبعه، وصواب المنهج الذي سلكه، بل إن صوابه الذي اتفق له باطل الدليل، حاصل بمحض الصدفة، قليل مغمور في جنب الكذب الذي يصاحبه.
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الذين يستَرِقُون السمع من الجن أنهم قد يسمعون شيئا مما تتحدث به الملائكة عن مستقبل القدر، فربما ألقى الجني ما سمعه إلى الكاهن في الأرض، وربما احترق الجني قبل أن يفعل ذلك، ورغم ذلك كانت الكهانة من كبائر الذنوب لما فيها من تعاطي علم الغيب بغير الأسباب الشرعية.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
( «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ -[وَهُوَ السَّحَابُ]- فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ، فَتَسْمَعُهُ، فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» )
رواه البخاري (رقم/3210)
ولذلك قال القاضي عياض رحمه الله:
" هذا الضرب – يعني المنجمين - يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما، لكن الكذب فيه أغلب " انتهى.
نقلا عن " شرح النووي على مسلم " (14/223)
ويقول الخطيب البغدادي رحمه الله:
" يدخل الشَّبَه على الناس في أمر المنجمين مِن قبيل أنهم يرون المنجِّم يُصيب في مسألة تقع بين أمرين، كالجنين الذي لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى، أو المريض الذي لا يخلو من أن يصح أو يموت، والغائب الذي لا يخلو من أن يقيم بمكان أو يؤوب، ومِن شأن الناس أن يحفظوا الصواب للعجب به والشغف، ويتناسون الخطأ؛ لأنه الأصل الذي يعرفونه، والأمر الذي لا ينكرونه، ومن ذا الذي يتحدث بأنه سأل المنجم فأخطأ ؟! وإنما التحدث بأنه سأله فأصاب، والصواب في المسألة إذا كانت بين أمرين قد يقع – أحيانا – للمعتوه والطفل، فضلا عن المتلطف الرفيق.
وإن وُجد لمن يدَّعي الأحكام إصابةٌ في شيء، فخطؤه أضعافه، ولا تبلغ إصابته عشر معشاره، وتكون الإصابة اتفاقا، كما يظن الظان المنافي للعلم المقارن للجهل الشيء فيكون على ظنه، ويخطئ فيما هو معلوم أكثر عمره... ولا فرق بين المنجم والكاهن؛ إذ كل واحد منهما يدعي الإخبار بالغيوب، وكيف يسلم للمنجمين ما يدعونه وأحدهم على التحقيق ما يعرف ما حدث في منزله، ولا ما يصلح أهله وولده، بل لا يعرف ما يصلحه في نفسه، ويؤثر عنه أن يخبر بالغيب الذي لم يؤته الله أحدا، ولم يستودعه بشرا إلا لرسول يرتضيه، أو نبي يصطفيه " انتهى.
" القول في علم النجوم " (ص/192-194)
ويقول الشيخ ابن باز رحمه الله:
" قد يصادف القدر حاجة شخص، فيظن المسكين أنه بأسباب هذا المنجِّم، أو بأسباب هذا الكاهن حصل هذا الأمر، وقد يكون وصف لشخص دواء آخر غير ما يزعمه عن النجوم والتنجيم من الأدوية المعروفة، والتي يعرفها لهذا المرض، فيظن المريض أنه حصل له الشفاء بأسباب دعوى هذا المنجم علم الغيب، أو من أسباب تعاطيه النظر في النجوم، أو غير ذلك. فالحاصل أن وجود الشفاء في بعض الأحيان بعد إتيان الكهان أو المنجمين أو الرمَّالين أو غيرهم لا يدل على صحة ما هم عليه، فالمشركون أنفسهم - عباد الأصنام - قد يأتون إلى الصنم ويسألونه، فيقع لهم ما أرادوا بإذن الله عز وجل صدفة، ولحكمة أرادها الله جل وعلا، أو بواسطة الشياطين، فصارت ابتلاء وامتحانا، لا من الصنم، فالصنم ما فعل شيئا، والجني الذي عنده ما فعل شيئا، ولكن قد يوافق القدر أن هذا المرض يزول، وهذا البلاء يزول بعدما جاء هذا المسكين إلى الصنم وسأله أو ذبح له، فيقع ذلك ابتلاء وامتحانا، من غير أن يكون ذلك من عمل الساحر، أو من عمل الصنم، أو من عمل الجن، أو غير ذلك، فيقع للمشركين أشياء تغريهم بأصنامهم حتى يعبدوها من دون الله.
فلا ينبغي للعاقل أبدا أن يغتر بما يقع على أيدي هؤلاء المنجمين، أو الكهنة والعرافين أو السحرة، بل يجب أن يبتعد عنهم، وألا يُصَدِّقَهم " انتهى.
" مجموع فتاوى ابن باز " (8/89-90)
ثالثا:
إذا تبين ما سبق لم يكن في ثبوت قصة المنجمين في عهد النمرود وإبراهيم عليه السلام – على فرض ثبوتها – أي إشكال علمي ولا شرعي، إذا لا يبعد أن يصادف كلام المنجمين بعض الصواب، ولكن الكذب فيهم أغلب، والفساد في علومهم أعم.
ومع ذلك نقول أيضا: إن القصة لم تثبت بالإسناد الصحيح، إنما يحكيها بعض المؤرخين حكاية مجردة من غير إثبات ولا برهان.
يقول ابن كثير رحمه الله:
" وذكروا أنه طلع نجم أخفى ضوء الشمس والقمر، فهال ذلك أهل ذلك الزمان، وفزع النمرود، فجمع الكهنة والمنجمين وسألهم عن ذلك، فقالوا يولد مولود في رعيتك يكون زوال ملكك على يديه، فأمر عند ذلك بمنع الرجال عن النساء، وأن يقتل المولودون من ذلك الحين، فكان مولد إبراهيم الخليل في ذلك الحين، فحماه الله عز وجل وصانه من كيد الفجار، وشب شبابا باهرا، وأنبته الله نباتا حسنا حتى كان من أمره ما تقدم، وكان مولده بالسوس، وقيل ببابل، وقيل بالسواد من ناحية كوثى، وتقدم عن ابن عباس أنه ولد ببرزة شرقي دمشق، فلما أهلك الله نمرود على يديه وهاجر إلى حران، ثم إلى أرض الشام، وأقام ببلاد إيليا كما ذكرنا " انتهى.
" البداية والنهاية " (1/200)، وقد ذكر الخطيب البغدادي في " تاريخ الأنبياء " (ص/66-68) تفاصيل مطولة لهذه القصة، يمكن مراجعتها هناك، غير أنها كلها تروى من غير إسناد ولا إثبات.
والله أعلم.