تحجر القلب

خالد عبد المنعم الرفاعي

السؤال:

 السلام عليكم ورحمة الله أنا أعانى من مشكلة فى القلب حيث فقدت الشعور بالآخرين وآلامهم وهذا بعد ما حدث في بلادنا من قتل الناس قبل هذا كنت أرحم الجميع وأشعر بهم وألتمس لهم العذر وأسمع شكواهم وأحاول أن اساعد فى حلها لكن الآن عندما أجد شخصا ما يعانى لا أهتم ولا أساعد نهائيا وأرى أن لا شأن لى ولا يتحرك قلبى لهم ولكن عندما أتذكر الناس التى قتلت أو سجنت أبكى بكاءا شديدا لا أستطيع التوقف عنه نهائيا. فبرجاء أفتونى فى حكم الشرع وماذا أفعل وأنا لا أتقبل الناس؟ شكرا

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإن الله تعالى جعل الابتلاء سنة كونية لا تتبدل ولا تتخلف، فابتلى الإنسان عمومًا بالنعم والمصائب سواء المؤمن أو الفاجر، وأفضل نعم الله وأجلّها على الإطلاق هو الإيمان، وهو لا يتحقق إلا بالامتحان والاختبار، من ثمّ ابتلى الله تعالى أنبياءه بأممهم وابتلى أممهم بهم؛ حتى قال لعبده ورسوله وخليله: "إنما بعثتك لِأَبْتَلِيَكَ وأبتلي بك"؛ رواه مسلم، وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}،  وقال عز وجلّ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3]، والمراد بالفتنة: الاختبار والامتحان، حتى يتبين الصادق من الكاذب، والصابر والشاكر، وقال سبحانه: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168].

وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[الفرقان: 20]، أي: أتصبرون على البلاء، فقد عرفتم ما وجد الصابرون.

ولولا هذا الابتلاء والامتحان لما ظهر فضل الصبر والرضا، والتوكل والجهاد، والعفة والشجاعة، والحلم والعفو والصفح، والله سبحانه يحب أن يكرم أولياءه بهذه الكمالات، ويحب ظهورها عليهم ليثني بها عليهم هو وملائكته؛ وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة واللذة والسرور، والابتلاء وإن كان مرَّ المبادئ فلا أحلى من عواقبه؛ ووجود الملزم –وهو الدرجات العلا - بدون لازمه –وهو الابتلاء- ممتنع؛ ومن حكمة الله تعالى في الابتلاء أن كمال الغايات تابعة لقوة أسبابها وكمالها، ونقصانها لنقصانها، ولذلك شاء سبحانه أن يمتحن خلقه ويفتنهم؛ ليتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، ومن يشكره ويعبده ممن يكفره ويعرض عنه ويعبد غيره.

قال الإمام ابن القيم في كتابه "شفاء العليل"(ص: 245) - في معرض كلامه عن أن الألم واللذة أمر ضروري لكل إنسان -: "... ومن لم يؤمن فلا يحسب أنه يعجز ربه تعالى ويفوته! بل هو في قبضته وناصيته بيده، فله من البلاء أعظم مما ابتلى به من قال آمنت؛ فمن آمن به وبرسله فلا بد أن يبتلي من أعدائه وأعداء رسله بما يؤلمه ويشق عليه، ومن لم يؤمن به وبرسله فلا بد أن يعاقبه فيحصل له من الألم والمشقة أضعاف ألم المؤمنين، فلا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أشد ثم ينقطع ويعقبه أعظم اللذة، والكافر يحصل له اللذة والسرور ابتداء ثم ينقطع ويعقبه أعظم الألم والمشقة، وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات فيلتذون بها ابتداء ثم تعقبها الآلام بحسب ما نالوه منها، والذين يصبرون عنها يتألمون بفقدها ابتداء، ثم يعقب ذلك الألم من اللذة والسرور بحسب ما صبروا عنه وتركوه منها، فالألم واللذة أمر ضروري لكل إنسان، لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير، والآجل الدائم العظيم بون؛ ولهذا كان خاصة العقل النظر في العواقب والغايات، فمن ظن أنه يتخلص من الألم بحيث لا يصيبه البتة فظنه أكذب الحديث؛ فإن الإنسان خلق عرضة للذة والألم والسرور والحزن والفرح". اهـ.

وقال في "إغاثة اللهفان"(2/ 160): " وجميع الخلق امتحن بعضهم ببعض، فامتحن الرسل بالمرسل إليهم، ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم، وتحمل المشاق في تبليغهم رسالات ربهم، وامتحن المرسل إليهم بالرسل، وهل يطيعونهم، وينصرونهم، ويصدقونهم، أم يكفرون بهم، ويردون عليهم، ويقاتلونهم؟ وامتحن العلماء بالجهال، هل يعلمونهم، وينصحونهم، ويصبرون على تعليمهم ونصحهم، وإرشادهم، ولوازم ذلك؟ وامتحن الجهال بالعلماء، هل يطيعونهم، ويهتدون بهم؟ وامتحن الملوك بالرعية، والرعية بالملوك، وامتحن الأغنياء بالفقراء، والفقراء بالأغنياء، وامتحن الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، والسادة بالأتباع، والأتباع بالسادة، وامتحن المالك بمملوكه، ومملوكه به، وامتحن الرجل بامرأته، وامرأته به، وامتحن الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، والمؤمنين بالكفار، ولكفار بالمؤمنين، وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورين بهم، ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم من أتباع الرسل، فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم، امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل، وقالوا: {لَوْ كانَ خَيْراَ مَا سَبَقُونَا إلَيْهِ}[الأحقاف: 11]، وقالوا لنوح عليه السلام: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، وقال تعالى: {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] .

فإذا رأى الشريفُ الرئيسُ المسكينَ الذليلَ قد سبقه إلى الإيمان، ومتابعة الرسول: حمى وأنف أن يسلم، فيكون مثلَه، وقال: أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء".

إلى أن قال: (2/ 162): "قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر هاهنا، وفى قوله: {ثُمَّ إنَّ رَبّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا}[النحل: 110]، فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر، فإن صَبَرَ كانت الفتنة ممحصة له، ومخلصة من الذنوب، كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة.

فالفتنة كير القلوب، ومحك الإيمان، وبها يتبين الصادق من الكاذب: قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].

فالفتنة قسمت الناس، إلى صادقٍ وكاذبٍ ومؤمن ومنافق، وطيبٍ وخبيثٍ. فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها؛ فالفتنة لا بد منها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّار يفُتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكمْ هذا الّذِى كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 13، 14]، فالنار فتنة من لم يصبر". اهـ.

ثم بين في "الهدي" (3/ 7) الحكمة من الابتلاء، فقال: "وقال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد: 31]، فأعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقوى، وأنزل عليهم كتبه، وأرسل إليهم رسله، وأمدهم بملائكته وقال لهم: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، وأمرهم من أمره بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوهم، وأخبرهم أنهم إن امتثلوا ما أمرهم به لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوهم، وأنه إن سلطه عليهم فلتركهم بعض ما أمروا به ولمعصيتهم له، ثم لم يؤيسهم ولم يقنطهم، بل أمرهم أن يستقبلوا أمرهم، ويداووا جراحهم، ويعودوا إلى مناهضة عدوهم، فينصرهم عليه، ويظفرهم بهم، فأخبرهم أنه مع المتقين منهم، ومع المحسنين ومع الصابرين ومع المؤمنين، وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوهم، ولولا دفاعه عنهم لتخطفهم عدوهم واجتاحهم.

وهذه المدافعة عنهم بحسب إيمانهم وعلى قدره، فإن قَوي الإيمان قويت المدافعة، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

وأمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده، كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته، وكما أن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فحق جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله، فيكون كله لله وبالله لا لنفسه ولا بنفسه، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده، ومعصية أمره، وارتكاب نهيه، فإنه يعد الأماني ويمني الغرور، ويعد الفقر ويأمر بالفحشاء وينهى عن التقى والهدى والعفة والصبر، وأخلاقِ الإيمان كلها، فجاهده بتكذيب وعده، ومعصية أمره، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان، وعدة يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله؛ لتكون كلمة الله هي العليا". اهـ.

فاطو تلك الصفحة، واستعن بالله ولا تعجز، واستمسك بجميع وسائل الثبات على الحق، ففي ذلك عز الدنيا والآخرة، والنجاة من كل مكروه، والعافية من كل فتنة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 40]، والله سبحانه أمر عباده بالتوبة إليه والضراعة إليه عند وقوع المصائب؛ فقال سبحانه:  {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } [الأنعام: 42]، ورغب سبحانه بالضراعة عند حلول المصائب، والبدار بالتوبة والبدار إلى طاعته؛ كما قال سبحانه: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 43]

فالله سبحانه لم يخلق شرًا غالبا قط، وإنما الخير الذي في الشر أكثر بكثير؛ وفي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له"، فشأن المؤمن الصبر والشكر، وقد قال سبحانه بعدما ذكر كيد الكافرين: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].

أما تشعر به من جمود القلب وتحجره بعد هذا الابتلاء الكبير؛ فاعلم أن الله تعالى غني جواد شكور عزيز، ومن ثمّ فإنه سبحانه يبتلي عباده في إخلاصهم، وما نراه نكران الجميل، والحسد والحقد لمن يحسن للناس، هي من صور الابتلاء في العمل الصالح؛ ليعلم من ينفق لله ويخلص له من غيره، فتدبر!

ونكران الناس معروف في عامة الخلق إلا من رحم الله، حتى قال المتنبي:

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا

فوضع الندا في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندا

هذا؛ وقد رغب الله فيالتصدق والإرفاق، الشفقة والرحمة ولين القلب على الخلق، وبين أن رحمة الخلق ورقة القلب والعدل من أسباب دخول الجنة؛ ففي الصحيح عن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال، قال"، الحديثَ.

وصدق من قال:

الناس بالناس ما دام الحياة بهم ... والسعد لا شك تارات وتارات

وأفضل الناس ما بين الورى رجل ... تقضى على يده للناس حاجات

لا تمنعن يد المعروف عن أحد ... ما دمت مقتدرا فالسعد تارات

واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت ... إليك لا لك عند الناس حاجات

قد مات قوم وما ماتت مكارمهم ... وعاش قوم وهم في الناس أموات

هذا؛ والله أعلم.