هل يوجد فرق بين الكفر والاستهزاء بآيات الله
خالد عبد المنعم الرفاعي
السلام عليك ورحمة الله وبركاته في في سورة النساء { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، هل الكفر المذكور هو نفسه الاستهزاء بايات الله ام ان هناك فرق بين الكفر بايات الله والاستهزاء بايات الله
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة، كما نطق به الكتاب العزيز ةالسنة المشرفة، وبينه أئمة الدين.
قال أبو محمد بن حزم في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام"(1/ 49-50) وهو يعرف الكفر: "صفة من جحد شيئًا مما افترض الله تعالى الإيمان به، بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه، بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معًا، أو عملٌ جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان". اهـ.
وقال الإمام ابن القيم في كتاب "مدارج السالكين"(1/ 346): "وأما الكفر الأكبر، فخمسة أنواع: كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق.
فأما كفر التكذيب: فهو اعتقاد كذب الرسل، وهذا القسم قليل في الكفار، فإن الله تعالى أيد رسله، وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة، وأزال به المعذرة، قال الله تعالى عن فرعون وقومه {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وإن سُمي هذا كفر تكذيب أيضًا فصحيح، إذ هو تكذيب باللسان.
وأما كفر الإباء والاستكبار فنحو كفر إبليس؛ فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار، ومن هذا كفر من عرف صِدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله، ولم ينقد له إباء واستكبارًا، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل، كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } [المؤمنون: 47] وقول الأمم لرسلهم {إن أنتم إلا بشر مثلنا} [إبراهيم: 10] وقوله: {كذبت ثمود بطغواها} [الشمس: 11] وهو كفر اليهود كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146]، وهو كفر أبي طالب أيضًا، فإنه صدقه ولم يشك في صدقه، ولكن أخذته الحمية، وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم، ويشهد عليهم بالكفر.
وأما كفر الإعراض: فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول، لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به البتة، كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم: (والله أقول لك كلمة، إن كنت صادقًا، فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذبًا، فأنت أحقر من أن أكلمك).
وأما كفر الشك: فإنه لا يجزم بصدقه ولا يكذبه، بل يشك في أمره، وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، فلا يسمعها ولا يلتفت إليها، وأما مع التفاته إليها، ونظره فيها فإنه لا يبقى معه شك، لأنها مستلزمة للصدق، ولا سيما بمجموعها، فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار.
وأما كفر النفاق: فهو أن يظهر بلسانه الإيمان، وينطوي بقلبه على التكذيب، فهذا هو النفاق الأكبر.
وقال: كفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص.
فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، وإرساله الرسول.
والخاص المقيد أن يجحد فرضا من فروض الإسلام، أو تحريم محرم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبرًا أخبر الله به، عمدًا، أو تقديمًا لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض.
وأما جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادًا أو تكذيبًا". اهـ. مختصرًا.
إذا تقرر هذا فقوله تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، فالاستهزاء نوع من أنواع الكفر الأكبر، والاستهزاء أخص من الكفر، بمعنى أن كل مستهزئ كافر، وليس كل كافر مستهزئ، ولذلك عطف سبحانه بينهما بالواو لما في العطف من موجب التغاير فيتعدد؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه فيتعين التغاير،، والله أعلم.