كيف نجمع بين قاعدتي العمل باليقين وغلبة الظن
خالد عبد المنعم الرفاعي
كيف نجمع بين قاعدة اليقين لايزول بالشك وبين العبادات تبنى على غلبة الظن
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ
فالذي يظهر أنه لا تعارض بين هاتين القاعدتين؛ فقاعدة أن الأحكام تبنى على غلبة الظن اتفاقًا، كما في "رد المحتار" (1 / 230)، أو أن غلبة الظن تحمل على اليقين، أو بمعنى آخر: أن المظنة تقوم مقام المئنة، وهي تدل على أنه يكفي في الأحكام الشرعية غلبة الظن، إذا تعذر حصول اليقين، كما في غلبة الظن في الاستنجاء والطهارة وغيره.
مع ملاحظة أنه لا يجوز أن تبنى الأحكام الشرعية على التوهم، أو على الظن المرجوح، وإنما تقوم على الظن الراجح.
أما قاعدة: "اليقين لا يزال بالشك"، أو "اليقين لا يرفع بالشك"، وهي إحدى القواعد الخمس، أو الست الكبرى التي يُبنى عليها علم الفقه الشريف؛ كما في كتاب "الأشباه والنظائر" للسبكي (1/138)، و كتاب "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص7).
والمراد بالشك الظن المرجوح، وهو من الأوهام، ومن المعلوم بداهة أنه لا يجوز الحكم في الشرع بوهم من الأوهام.
وتعمل هذه القاعدة الشريفة في كل ما تيقن حكمه، وتوهم خلافه، كالعبادات التي أداها صاحبها مستوفية للشروط والأركان، وتيقن من هذا، وطرأ الشك بعد تمام العبادة، ومن ثم يعبر بعض العلماء عن تلك القاعدة بقولهم: "ما ثبت بيقين لا يرفع إلا بيقين"، ومنهم من قال: "كل مشكوك فيه يجعل كالمعدوم"، أو: "الأصل بقاء ماكان على ماكان".
ومن أمثلتها: ان من تيقن الطهارة ثم شك في حصول الحدث الناقض، فلايلزمه الطهارة، أو من تيقن أنه صلى العشاء وشك في المبطل؛ ويستدل أهل العلم لتلك القاعدة بحديث عن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: "لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"؛ منفق عليه.
إذا تقرر هذا، فالقاعدتان "اليقين لا يزول بالشّكّ"، و"العبادات تبنى على غلبة الظن"، متوافقتان وليستا متعارضتين، وكلاهما تدل على أن الشّكّ الذي هو التّردّد بين أمرين دون مرجّح لا اعتبار له، ولا تبنى عليه الأحكام، بخلاف الظن الغالب فإنه يجري مجرى اليقين؛ لأن الوصول إلى اليقين يتعذر في كثير من الأحيان، لذلك جوَّز الشرع الاعتماد على الظن الغالب الذي يقرب من اليقين، وهو الذي تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب، فإن كان الظن غير مستند إلى دليل فلا اعتبار له مطلقاً، ويكون مجرد وهْم، ولا عبرة للتوهم، كما لو غلب على ظن الغاصب حل العين المغصوبة، لاحتمال أن يكون المالك أباح المال لمن يأخذه،، والله أعلم.