هل نكاح الدبر يسعه الخلاف بين الفقهاء

خالد عبد المنعم الرفاعي

السؤال:

هل نكاح الدبر يسعه الخلاف بين الفقهاء ؟

الإجابة:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:

فقد ذهب عامة أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم إلى حرمة إتيان الزوجة في دبرها، وهو المروي عن الصحابة: علي وأبي الدرداء وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم، وهو قول جمهور التابعين.

وقد نقل الإجماع على ذلك الإمام النووي في "شرح مسلم" (10/ 7) حيث قال: "اتفق العلماء الذين يعتد بهم على تحريم وطء المرأة في دبرها، حائضًا كانت أو طاهرًا، لأحاديث كثيرة مشهورة". اهـ.

ونقل عن الإمام الشافعي إباحته ولكن رده أئمة المذهب؛ كما في كتاب "الحاوي الكبير" للموردي .(9/ 317)

 وكذلك حُكي عن الإمام مالك وردّ أئمة المذهب تلك الرواية، كما في كتاب "المدخل" (2/192-193) لابن الحاج المالكي حيث قال:  

"وليحذر أن يفعل مع زوجته أو جاريته هذا الفعل القبيح الشنيع الذي أحدثه بعض السفهاء، وهو إتيان المرأة في دبرها، وهي مسألة معضلة في الإسلام، وليتهم لو اقتصروا على ذلك لكنهم نسبوا ذلك إلى الجواز، ويقولون: إنه مروي عن مالك وهي رواية منكرة عنه لا أصل لها؛ لأن من نسبها إلى مالك إنما نسبها لكتاب السر، وإن وجد ذلك في غيره فهو مُتقول عليه، وأصحاب مالك مطبقون على أن مالكًا لم يكن له كتاب سر، وفيه من غير هذا أشياء كثيرة منكرة يُجل غير مالك عن إباحتها فكيف بمنصبه!

وقد سئل مالك - رحمه الله - في الكتب المشهورة المروية عنه أيجوز وطء المرأة في دبرها؟

فقال: أما أنتم قوم عرب؟ ألم تسمعوا قول الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، أيكون الزرع حيث لا نبات؟ وقوله تعالى {أَنَّى شِئْتُمْ}، قيل: معناه كيف شئتم مقبلة أو مدبرة أو باركة في موضع الزرع، وقيل معناه متى شئتم من ليل أو نهار، روي عن ابن عباس، وروي عنه أيضا أنه قال: معناه فأتوا حرثكم كيف شئتم إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا.

وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه سئل عن جواز ذلك فقال: أف أف أيفعل ذلك مؤمن؟ أو قال مسلم.

وقد قيل لمالك - رحمه الله - في الكتب المروية عنه أنت تبيح ذلك فقال: كذب من قاله، وقال مرة أخرى: كذبوا علي، وقال في أخرى: كذبوا علي عافاك الله أما تسمع الله تعالى يقول {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة: 223] هل يكون الحرث إلا في موضع الزرع، ولا يكون الوطء إلا في موضع الولد.

قال ابن المنذر: وإذا ثبت الشيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - استغني به عما سواه، ومن كتاب الشيخ الإمام الجليل أبي عبد الله محمد المعروف بابن ظفر روي أن عليا كرم الله وجهه سئل عن ذلك فقال: أما علمتم أنها اللوطية الصغرى.

وروى عبد الرحمن بن القاسم أن شرطي المدينة دخل على مالك بن أنس - رحمه الله - فسأله عن رجل رفع إليه أنه قد أتى امرأته في دبرها، فقال له مالك بن أنس: أرى أن توجعه ضربا، فإن عاد إلى ذلك ففرق بينهما، وأما ما حكي أنقوما من السلف أجازوا ذلك، فلا يصلح مع ما ذكر من إضافته إليهم بل يحمل على سوء ضبط النقلة، والاشتباه عليهم، فإن الدبر اسم للظهر قال الله تعالى {ويولون الدبر} [القمر: 45] ، وقال {ومن يولهم يومئذ دبره} [الأنفال: 16] أي ظهره، والمرأة تؤتى من قبل، ومن دبر انتهى. يعني أنها تؤتى من جهة ظهرها في قبلها، وسبب نزول الآية أن رجلا من المهاجرين تزوج امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ما اعتاده المهاجرون من أنهم كانوا يتلذذون من نسائهم مقبلات، ومدبرات، ومستلقيات فأنكرته عليه، وقالت: كنا نؤتى على حرف فاصنع ذلك، وإلا فاجتنبني حتى سرى أمرهما فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة: 223] أي مقبلات، ومدبرات، ومستلقيات يعني بذلك في موضع الولد". اهـ. مختصرًا.

وقال أبو محمد بن حزم في "مراتب الإجماع" (ص: 23): "وَاتَّفَقُوا على أَن الْحَائِض لَا تصلي وَلَا تَصُوم أَيَّام حَيْضهَا وَلَا يَطَؤُهَا زَوجهَا فِي فرجهَا وَلَا فِي دبرهَا". اهـ.  

وجاء في "المغني" لابن قدامة (7/ 296): "ولا يحل وطء الزوجة في الدبر، في قول أكثر أهل العلم؛ منهم علي، وعبد الله، وأبو الدرداء، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وأبو هريرة. وبه قال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، ومجاهد، وعكرمة، والشافعي، وأصحاب الرأي، وابن المنذر". اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى (32/ 267): "الوَطْءُ في الدُّبُرِ حرامٌ في كتاب الله، وسنة رسوله، وَعَلَى ذلك عامةُ أئمة المسلمين؛ من الصحابة، والتابعين، وغيرهم، فإن الله قال في كتابه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: إذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا، جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَسَأَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، والْحَرْثُ: مَوْضِعُ الزَّرْعِ، وَالْوَلَدُ إنَّمَا يُزْرَعُ فِي الْفَرْجِ، لَا فِي الدُّبُرِ، {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ}، وَهُوَ مَوْضِعُ الْوَلَدِ {أَنَّى شِئْتُمْ}؛ أَيْ: مِنْ أَيْنَ شِئْتُمْ؛ مِنْ قُبُلِهَا، وَمِنْ دُبُرِهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا، وَعَنْ شِمَالِهَا؛ فَاَللهُ - تَعَالَى - سَمَّى النِّسَاءَ حَرْثًا؛ وَإِنَّمَا رَخَّصَ فِي إتْيَانِ الحُرُوثِ، وَالْحَرْثُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْفَرْجِ؛ وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ أَثَرٍ: أَنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ هُوَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي حُشُوشِهِنَّ}؛ والْحُشُّ: هُوَ الدُّبُرُ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْقَذَرِ، وَاَللهُ - سُبْحَانَهُ - حَرَّمَ إتْيَانَ الْحَائِضِ مَعَ أَنَّ النَّجَاسَةَ عَارِضَةٌ فِي فَرْجِهَا، فَكَيْفَ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ، وأَيْضًا؛ فَهَذَا مِنْ جِنْسِ اللِّوَاطِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ؛ لَكِنْ حَكَى بَعْضُ النَّاسِ عَنْهُمْ رِوَايَةً أُخْرَى بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَطَعَنَ فِيهَا، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ كَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِاللهِ يُكَذِّبُ نَافِعًا فِي ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَافِعٌ غَلِطَ، أَوْ غَلِطَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ. فَإِذَا غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ غَلْطَةً، لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُسَوِّغُ خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ". اهـ.

إذا تقرر هذا؛ فالذي يظهر أن تحريم نكاح الدبر  لا خلاف فيه بين الفقهاء، وكل من حكي لم يصح عنه كما سبق بيانه من نقول أهل العلم،، والله أعلم.