ظلمت صديقي فدعا عليّ

خالد عبد المنعم الرفاعي

السؤال:

كنت اتناقش مع صاحبي في موضوع شخصي فظلمته فدعا علي فماذا افعل افكر اتصدق عنه بدون علمه لعل الله يسامحني

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمَّا بعد

إن الحال كما ذكرت: أنك ظلمت صديقكَ، فالواجب عليك أن تتوب إلى الله تعالى وتستغفره، وان تندم على ذلك، وتعزم على عدم العودة إلى ذلك في المستقبل، أن تطلب العفو والسماح من صاحبك، وأن تبذل الوسع في الاعتذار إليه؛ ففي "صحيح البخاري" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (18/ 186): "فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم، لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا فلا بد له من العوض في الآخرة، فينبغي للظالم التائب أن يستكثر من الحسنات، حتى إذا استوفى المظلومون حقوقهم لم يبق مفلسًا، ومع هذا فإذا شاء الله أن يعوض المظلوم من عنده فلا رادَّ لفضله، كما إذا شاء أن يغفر ما دون الشرك لمن يشاء". اهـ.

هذا؛ وقد تكاثرة أدلة الشرع الحنيف على أن بابُ التوبةِ مفْتوحٌ، وأن اللهُ - تعالى - يقبلُ التوبةَ عن عباده، ويعفو عن السيِّئات، والله - تعالى - غافرُ الذنبِ، وقابلُ التوبِ، شديدُ العقابِ، وأن الذنبُ وإن عظُم،  والكفرُ  وإن غلُظ وجسُم، فإن التوبةَ تمْحُو ذلك كلَّه، والله - سبحانه - لا يتعاظمُه ذنبٌ أن يغفرَه لمن تاب؛ قال - تعالى -: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر: 53]، وقال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]، وقال - تعالى -: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104]، وفي صحيحِ مسلمٍ عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: ((لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ)).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (11/ 256): "فَالْإِنْسَانُ ظَالِمٌ جَاهِلٌ، وَغَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ التَّوْبَةُ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ بِتَوْبَةِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ((لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ))، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: ]؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ نَفَى بَاءَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَادَلَةِ، وَالْقُرْآنُ أَثْبَتَ بَاءَ السَّبَبِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: "إذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا، لَمْ تَضُرَّهُ الذُّنُوبُ"؛ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا، أَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ، وَالِاسْتِغْفَارَ، فَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّ مَنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا، فَهُوَ ضَالٌّ، مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ؛ بَلْ مَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا، يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وَإِنَّمَا عِبَادُهُ الْمَمْدُوحُونَ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله - تَعَالَى -: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ َالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: ].

وقال أيضًا (15/ 53 - 55): "فَتَوْبَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ حَسَنَاتِهِمْ، وَأَكْبَرِ طَاعَاتِهِمْ، وَأَجَلِّ عِبَادَاتِهِمْ الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا أَجَلَّ الثَّوَابِ، وَيَنْدَفِعُ بِهَا عَنْهُمْ مَا يَدْفَعُهُ مِنْ الْعِقَابِ.

وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: فَالتَّوْبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ ذَنْبٍ، وَالِاسْتِغْفَارُ كَذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: الذَّنْبُ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ هُوَ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَوْبَةٌ، فَأَمَّا مَا حَصَلَ مِنْهُ تَوْبَةٌ، فَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ؛ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "كَانَ دَاوُد بَعْدَ التَّوْبَةِ أَحْسَنَ مِنْهُ حَالًا قَبْلَ الْخَطِيئَةِ"، وَلَوْ كَانَتْ التَّوْبَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ؛ فَإِنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ هُمْ خِيَارُ الْخَلِيقَةِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا صَارُوا كَذَلِكَ بِتَوْبَتِهِمْ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ التَّوْبَةِ نَقْصًا وَلَا عَيْبًا، بَلْ لَمَّا تَابُوا مِنْ ذَلِكَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، كَانُوا أَعْظَمَ إيمَانًا، وَأَقْوَى عِبَادَةً وَطَاعَةً مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ؛ فَلَمْ يَعْرِفِ الْجَاهِلِيَّةَ كَمَا عَرَفُوهَا، وَلِهَذَا؛ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ".

فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إذَا تَابَ، وَبَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، انْقَلَبَ مَا كَانَ يَضُرُّهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ بِسَبَبِ تَوْبَتِهِ حَسَنَاتٍ يَنْفَعُهُ اللهُ بِهَا، فَلَمْ تَبْقَ الذُّنُوبُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُضِرَّةً لَهُ، بَلْ كَانَتْ تَوْبَتُهُ مِنْهَا مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُ، وَالِاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ، لَا بِنَقْصِ الْبِدَايَةِ، فَمَنْ نَسِيَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ حَفِظَهُ، خَيْرٌ مِنْ حِفْظِهِ الْأَوَّلِ، لَمْ يَضُرَّهُ النِّسْيَانُ، وَمَنْ مَرِضَ، ثُمَّ صَحَّ وَقَوِيَ، لَمْ يَضُرَّهُ الْمَرَضُ الْعَارِضُ، وَاَللهُ - تَعَالَى - يَبْتَلِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِمَا يَتُوبُ مِنْهُ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ للهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَكَمَالِ الْحَذَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ - مَا لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ التَّوْبَةِ؛ كَمَنْ ذَاقَ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَالْمَرَضَ وَالْفَقْرَ وَالْخَوْفَ، ثُمَّ ذَاقَ الشِّبَعَ وَالرَّيَّ وَالْعَافِيَةَ وَالْغِنَى وَالْأَمْنَ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَحَبَّةِ لِذَلِكَ وَحَلَاوَتِهِ وَلَذَّتِهِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ وَشُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ وَالْحَذَرِ أَنْ يَقَعَ فِيمَا حَصَلَ أَوَّلًا - مَا لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ ذَلِكَ.

 وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَلَا يَكْمُلُ أَحَدٌ، وَيَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ الْقُرْبِ مِنْ اللهِ، وَيَزُولُ عَنْهُ كُلُّ مَا يَكْرَهُ إلَّا بِهَا". اهـ. مختصرًا.

هذا؛ والله أعلم.