تحرير مسألة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة
خالد عبد المنعم الرفاعي
السلام عليكم أرجو الرد هل إنكار معلوم من الدين بالضرورة كفر إذا أنكره خطأ مثل سمع شيخ يقول يجوز فسمعها لا يجوز أو فهمه خطأ و هل شكي في كفره كفر؟
الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن وَالاَه، وبعد:
فقد أجمع أهل العلم على كفر من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، مثل أنكر وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو وجوب الحج، أو أنكر تحريم الزنا، أو تحريم الربا، أو تحريم الخمر.
والمراد من المعلوم من الدين بالضرورة: ما تَضْطَرُّ العقولُ إلى معرفتِهِ منَ الدينِ، ويشترك في معرفته العالم والجاهل، ومعلوماً عند الخاص والعام؛ لظهوراه وتواتره من أحكام الدين ، مثل: مباني الإسلام، والمحرمات الظاهرة؛ ولا شك أن جحد مثل هذه الأحكام يستلزم تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم -
غير أن المعلوم من الدين بالضرورة يختلف باختلافِ الأشخاصِ، والأزمانِ، والأماكنِ؛ فقد يكون الحكم قطعيا لشخض ظنيًا لآخر، وقد تخفى بعض الأحكام عن أناس كوجوب الغسل من الجنابة أو الحيض، ومثل هذا لا يكفر منكره حتى تقام عليه الحجة ببيان الحق وإزالة الشبهة عن طريق أهل العلم.
جاء في "شرح مسلم" للنووي (1/ 100): "وإن جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة، حكم بردته وكفره، وكذا من استحل الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة". اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل" (7/ 27): "والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس: إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول، فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم، بل يكون ذلك الامتناع مانعاً له من حصول العلم بذلك، كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه، مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه، وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره، لا سيما إذا قام عنده اعتقاد إن الرسول لا يقول مثل ذلك، فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري". اهـ.
ثم بين في معرض رده على البكري أن المعلوم بالضرورة قد تخفى معالمه لغلبة الجهل، فقال في "الاستغاثة" (ص: 411-412): "فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بعيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين؛ لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبيّن لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه، ولهذا ما بينّت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الدين إلا تفطن؛ وقال هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بيّنته لنا لعلمه بأنّ هذا أصل الدين". اهـ.
وقال في "مجموع الفتاوى" (3/ 354): "وقد يكون مخطئًا متأولا مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين.
والأصل الثاني: أن المقالة تكون كفرًا: كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول، إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول". اهـ.
وفيه أيضًا (7/ 609-610،619): "وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك.
وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام، ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك= فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك؛ كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل...
إلى أن قال: والتحقيق في هذا: أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر فيطلق القول بتكفير القائل؛ كما قال السلف من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة والزكاة، واستحل الخمر والزنا، وتأول. فإن ظهور تلك الأحكام -يعني: وجوب الصلاة والزكاة وتحريم الزنا وشرب الخمر- بين المسلمين أعظم من ظهور هذه -أن الله يرى في الآخرة ويتكلم بصوت - فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره إلا بعد البيان له واستتابته - كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر - ففي غير ذلك أولى وأحرى". اهـ.
وقال أيضًا (11/ 405-407): "وهذا الذي اتفق عليه الصحابة، هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك: ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق، أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة: كالفواحش والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة: كالخبز واللحم والنكاح= فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن أضمر ذلك كان زنديقًا منافقًا لا يستتاب عند أكثر العلماء؛ بل يقتل بلا استتابة إذا ظهر ذلك منه.
ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش: كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن، وكذلك من يستحل ذلك من المردان، فهؤلاء كلهم كفار باتفاق المسلمين وهم بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم، غير ذلك من المحرمات التي يعلم أنها من المحرمات تحريما ظاهرا متواترا.
لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة؛ كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165]، وقال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، فإذا كان هذا في التأثيم فكيف في التكفير؛ وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، ومثل هذا لا يكفر؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول"
إذا تقرر هذا؛ علم أن من أنكر معلوما من الدين بالضرورة جهلاً أو نسيانًا أو ذهولا أو نحو هذا، فلا يكفر، وأن المعلوم بالضرورة يختلف بإختلاف الأشخاص والأزمان والأماكن،، والله أعلم.