حكم التلفيق للعامي

خالد عبد المنعم الرفاعي

السؤال:

أنا عامي ولست مجتهد ولدي قدرة جيدة على البحث، لكنني لا أستطيع معرفة أي الأحكام أقوى. أعني بذلك أنني لست مجتهداً لكنني أستطيع معرفة رأي كل مذهب في مسألة معينة. مشكلتي هي التلفيق، فهو يشق علي العبادات. فهل يجوز أن أقوم بتلفيق أكثر من رأي للمذاهب في مسألة واحدة، حتى وإن لم أعلم إن وافق هذا التلفيق رأي أحد المجتهدين أو المفتين، مع العلم أن العبادات أصبحت تشق علي كثيراً، وأنا أقصد العبادات اليومية كالصوم والصلاة والوضوء.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإن الله - عزَّ وجلَّ - أوجب على المسلم اتِّباع كتابه، وسنة رسوله - صَلَّى الله عليه وَسَلَّم؛ قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]؛ وروى أحمد وأصحاب السنن من حديث العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والمحدثاتِ؛ فإن كل محدثة بدعة"، والآيات الكريمة والأحاديث النبوية بهذا المعنى كثيرة. 

 فإن كان المسلم يمكنه فهم الدليل الشَّرعي، فيجب عليه العمل به، أما غيره مما لا يفقه معنى الدليل فالواجب عليه تقليد من يفتيه من أهل العلم والفقه والدين.

فالعامي الذي ليست لهم أهليَّة لمعرفة الأدلة الشَّرعيَّة، ولا استنباط الأحكام، فإنَّه يجوز له أن يسأل عما أشكل عليه مَن يثق في علمه وورعِه؛ كما قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ويجوز له أن يُقَلِّد مذهبًا معيَّنًا دون أن يكون مُلْزمًا بأخْذِ جَميع أقوال ذلك المذهب؛ بل إن ظَهَرَ له الحقُّ بوجود الدَّليل الصحيح في مسألةٍ ما، فعليْهِ اتّباعُه وإن كان ذلك بخلاف قول المذهب الذي يتَّبعه، لأنَّه لا يَجوز العدول عن الحق إلى قول أحد كائنًا مَن كان، ولا عُذرَ لأحد عند الله في اتِّباع قول يعلم أنَّ الدليل ثابت بخلافه.

وقالَ شيخ الإسلام ابن تيمية "مجموع الفتاوى"(20/ 210): "قد ثبت بالكتاب والسّنَّة والإجماع أنَّ الله سبحانه وتعالى فَرَض على الخلق طاعتَهُ وطاعةَ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - ولم يُوجب على هذه الأُمَّة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان صِدِّيق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول: "أطيعوني ما أطعتُ الله فإذا عصيتُ الله فلا طاعة لي عليكم"، واتَّفَقُوا كلُّهم على أنَّه ليس أحد معصومًا في كل ما يأمر به وينهى عنه إلاَّ رسول الله - صَلَّى الله عليه وَسَلَّم - ولهذا قال غيرُ واحد من الأئمَّة: كلّ أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

إلى أن قال: ( 20/ 212): "لكن منَ الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلَّة التفصيلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه. وأما القادر على الاستدلال؛ فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقًا وقيل: يجوز مطلقًا، وقيل: يجوز عند الحاجة؛ كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال".

هذا؛ وننبه الأخ السائل إلى أن معظم مسائل العبادات المشهورة وغيرها مجمع عليه، خلاف لما يظنه البعض.

جاء في كتاب "الاستقامة" (1/ 59-/ 60) لشيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن قال قائل: مسائل الاجتهاد والخلاف في الفقه كثيرة جدًا في هذه الأبواب -يعني: الفرائض والعبادات وغيرها - قيل له: مسائل القطع والنص والإجماع بقدر تلك أضعافًا مضاعفة، وإنما كثرت لكثرة أعمال العباد، وكثرة أنواعها؛ فإنها أكثر ما يعلمه الناس مفصلاً، ومتى كثر الشئ إلى هذا الحد كان كل جزء منه كثيرًا من ينظرها مكتوبة، فلا يرتسم في نفسه إلا ذلك؛ كما يطالع تواريخ الناس والفتن وهي متصلة في الخبر فيرتسم في نفسه أن العالم ما زال ذلك فيه متواصلاً، والمكتوب شئ والواقع أشياء كثيرة، فكذلك أعمال العباد وأحكامها ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك". اهـ.

إذا تقرر هذا؛ علمت وتيقنت أن العبادات لا تشق على أحد البنتة؛ لأنه إما أن يتبع موجَب الدليل، وحينئذ لا يسمى ملفقًا؛ لكونه لا ينسب لأحد مذاهب الأئمة الأعلام من الأربعة وغيرهم، والمقلد - أيضًا - في راحة بال؛ لإتباعه أحد الأئمة إن كان متمذهًبا، أو اتباع من يفتيه من أهل العلم والفقه والدين، كأكثر أهل زماننا،،  والله أعلم