ضابط شرك المحبة

خالد عبد المنعم الرفاعي

السؤال:

أنا أقع في حب شخص دائما أفكر فيه وهذا التفكير يشغلني عن ذكر الله وعن مذاكرتي أنا أعلم إني واقعة في التعلق المحرم انوي بإذن الله التوبة منه وأن أخذ بالأسباب ولا افكر فيه ولكن هل وقعت في شرك المحبة خصوصا أنه أحيانا افعل محرمات بسببه مثل اسمع اغنية يحبها أو اضع ميكب حتي أظهر أمامه بأني جميلة وبعدين اقول لا أفعل ذلك مرة أخرى بعدها افعلها وهكذا وأنا خائفة فهل لو عصيت الله بسبب شخص يكون ذلك شرك أكبر أم هو يندرج تحت الشرك الأصغر لأن قرأت ذاك فى كتاب الداء والدواء وايضا ابن باز ولم افهم هل اكون كافرة

الإجابة:

 

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:

فإن ضابط شرك المحبة هو أن تكون المحبة مستلزمة للإجلال والتعظيم، والذل والخضوع وهي من معاني العبودية التي لا تنبغي إلا لله وحده لا شريك له؛ لأن العبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل، والمؤمنون يحبون لله، والمشركون يحبون مع الله، ومتى صرف العبد هذه المحبة لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر؛ كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، والند هو النظير.

فإنه لا يحب لذاته إلا الله حتى الأنبياء لا يحبون لذاتهم وإنما لله سبحانه؛ وعلامة محبة الرسول متابعته صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [سورة آل عمران: (31)].

والحاصل أن شرك المحبة: وهو اتخاذ الأنداد من المخلوقين فيحبهم كحب الله تعالى، ومن لوازم هذا الحب أن يقدم طاعتهم على طاعة الله سبحانه، وهذا يناقض أصل التوحيد ومقتضياته وهو إنفراد الله تعالى بالمحبة وطاعته، والانقياد لأمره، فمحبة العبودية تستلزم كمال الذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة لله تعالى، وحيثما صُرفت تلك المحبة لغير الله تعالى كان صاحبها مشركًا شرك المحبة.

وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: الآية54]؛ وعلامة المحبة هو الانقياد والاستسلام لله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتمسك بشرعه. وقد لت السنة المطهرة على هذا المعنى كما في الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"

جاء في "الجواب الكافي" (ص164): "وكل من أحب شيئاً مع الله، لا لله ولا من أجله، ولا فيه، فقد اتخذه نداً من دون الله، وهذه محبة المشركين".

فالمحبة الواجبة لله هي محبة العبودية التي تستلزم الذل والخضوع لله، وتعظيمه، وإيثاره سبحانه على كل من سواه، ومن صرف تلك المحبة لغيره فقد أشرك، وقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

(فمن اتخذ ندًا تساوي محبته محبة الله، فهو الشرك الأكبر... ولأن المنعم يحب على قدر إِنعامه، والله سبحانه وتعالى هو المنعم على الإِطلاق فيجب أن يحب على الإِطلاق، ولا يعادل حبه شيء آخر؛ كما في الآية الأولى من سورة الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ففيها أن الله رب العالمين، وفيها استغراق الحمد له؛ لأنه رب العالمين)؛ قاله الإمام محمد بن عبدالوهاب، كما في "مؤلفات الشيخ، القسم الأول".

 قال الإمام ابن القيم في "مدارج السالكين"(1/ 350): "... وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول، وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولين والآخرين، كما قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟

فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها: لا شفاعة إلا بإذنه، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله.

 فالله تعالى لا يغفر شرك العادلين به غيره؛ كما قال تعالى: { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، وأصح القولين أنهم يعدلون به غيره في العبادة والموالاة والمحبة، كما في الآية الأخرى {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98]، وكما في آية البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165].

وترى المشرك يكذب حالُه وعملُه قولَه؛ فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله، ولا نسويهم بالله، ثم يغضب لهم ولحرماتهم - إذا انتهكت - أعظم مما يغضب لله، ويستبشر بذكرهم، ويتبشبش به، سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللهفات، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم الباب بين الله وبين عباده، فإنك ترى المشرك يفرح ويسر ويحن قلبه، وتهيّج منه لواعج التعظيم، والخضوع لهم والموالاة، وإذا ذكرت له الله وحده، وجرَّدت توحيده لحقته وحشة، وضيق، وحرج، ورماك بنقص الإلهية التي له، وربما عاداك". اهـ.

وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (7/ 73): "وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29]، فلا ريب أن هذا يتناول الكافر الذي لم يؤمن بالرسول، وسبب نزول الآية كان في ذلك؛ فإن "الظلم المطلق" يتناول ذلك، ويتناول ما دونه بحسبه.

 فمن خالَّ مخلوقًا في خلاف أمر الله ورسوله كان له من هذا الوعيد نصيب؛ كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]، قال الفضيل بن عياض: حدثنا الليث عن مجاهد: هي المودات التي كانت بينهم لغير الله؛ فإن "المخالّة" تحاب وتواد؛ ولهذا قال: "المرء على دين خليله"؛ فإن المتحابين يحب أحدهما ما يحب الآخر بحسب الحب، فإذا اتبع أحدهما صاحبه على محبته ما يبغضه الله ورسوله، نقص من دينهما بحسب ذلك إلى أن ينتهي إلى الشرك الأكبر؛ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165].

والذين قدموا محبة المال الذي كنزوه، والمخلوق الذي اتبعوه، على محبة الله ورسوله= كان فيهم من الظلم والشرك بحسب ذلك؛ فلهذا ألزمهم محبوبَهم؛ كما في الحديث يقول الله تعالى: "أليس عدلاً مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولاه في الدنيا"، وقد ثبت في الصحيح يقول: "ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون: فمن كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الطواغيت الطواغيت، ويمثّل للنصارى المسيح، ولليهود عزير= فيتبع كل قوم ما كانوا يعبدون، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها"، فهؤلاء أهل الشرك الأكبر.

 وأما عبيد المال الذين كنزوه، وعبيد الرجال الذين أطاعوهم في معاصي الله= فأولئك يعذبون عذابًا دون عذاب أولئك المشركين؛ إما في عرصات القيامة، وإما في جهنم، ومن أحب شيئا دون الله عذب به. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]". اهـ.

وقال في "مجموع الفتاوى" (11/ 521): " ولو أحب الرجلَ لما ظهر له من الخير الذي يحبه اللهُ ورسولُه، أثابه الله على محبة ما يحبه الله ورسوله، وإن لم يعلم حقيقة باطنه؛ فإن الأصل هو حب الله، وحب ما يحبه الله. فمن أحب الله وأحب ما يحبه الله كان من أولياء الله.

وأما من أحب شخصًا لهواه، مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه، أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يتآكله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء= فهذه ليست محبة لله؛ بل هذه محبة لهوى النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان. وما أكثر من يدعي حب مشايخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي أحبهم لأجله؛ فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير، وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله؟ وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبيل الله؟ وما أكثر من يحب شيوخًا أو ملوكًا أو غيرهم فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله.

 والفرق بين المحبة لله، والمحبة مع الله ظاهر؛ فأهل الشرك يتخذون أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله، وأهل الإيمان يحبون ذلك؛ لأن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله ومن أحب الله أحب من يحبه ومن أحبه الله فمحبوب المحبوب محبوب ومحبوب الله يحب الله فمن أحب الله فيحبه من أحب الله. وأما أهل الشرك فيتخذون أندادا أو شفعاء يدعونهم من دون الله". اهـ. مختصرًا.

إذا تقرر هذا عليم أن: "أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها، وخلق خلقه لأجلها هي ما في عبادته وحده لا شريك له؛ إذ العبادة متضمنة لغاية الحب بغاية الذل، والمحبة لما كانت جنسا لأنواع متفاوتة في القدر والوصف كان أغلب ما يذكر منها في حق الله ما يختص به ويليق به، مثل العبادة والإنابة ونحوهما؛ فإن العبادة لا تصلح إلا لله وحده وكذلك الإنابة، وقد تذكر المحبة المطلقة لكن تقع فيها الشركة... ولهذا كان هذا الحب أعظم الأقسام المذمومة في المحبة، كما أن حب الله أعظم الأنواع المحمودة. فأهل التوحيد الذين أحبوا الله وعبدوه وحده لا شريك له لا يبقي منهم في العذاب أحد، والذين اتخذوا من دونه أندادًا يحبونهم كحبه وعبدوا غيره، هم أهل الشرك.

وجماع القرآن هو الأمر بتلك المحبة ولوازمها، والنهي عن هذه المحبات ولوازمها، وضرب الأمثال والمقاييس للنوعين، وذكر قصص أهل النوعين". قاعدة في المحبة (ص: 10).

هذا؛ والله أعلم.