وَمِمَّا يضارع خبر بهْرَام جور فِي السياسة وَالتَّدْبِير والتلطُّفِ والاحتيال، فِي ترقية الْمَرْء ...
وَمِمَّا يضارع خبر بهْرَام جور فِي السياسة وَالتَّدْبِير والتلطُّفِ والاحتيال، فِي ترقية الْمَرْء من الدناءة إِلَى معالي الْأَحْوَال، مَا حَدَّثَنِي بِهِ بعضُ إِخْوَاننَا من أَهْل الْأَدَب عَمَّن ذكره من نُظرائه، أَن بعض الْحُكَمَاء حَضَّ أصحابَه عَلَى طلب الْعلم، وذَكَر لَهُم عِظَمَ فَضله وشَرَفَ أَهله، وقصَّ عَلَيْهِم فِيهِ قصصا، وَضرب لَهُم أَمْثِلَة، فَكَانَ مِمَّا قَالَه لَهُم: إنّ الرَّجُل قَدْ يبلغُهُ الْكِبَر، فَتَكِلُّ أدواتُه، وتضعُف آلاته، وتنقطعُ لَذَّاته، فَلَا يحفلُ بشيءٍ من أمْر الدُّنْيَا إِلا بِأَن يُثْنَى عَلَيْه بالمعرفة، ويُعَظَّمَ بِأَن يُشارَ إِلَيْهِ بِالْعلمِ وَالْحكمَة، فجِدُّوا فِي طلب الْعلم، وَلا تيأسوا من إِدْرَاكه.
فقد بَلغنِي أَن رَجُلا قَرَأَ فِي صحيفَة: أَنَّهُ من أَرَادَ شَيْئا وسعى فِي طلبه ناله أَوْ شَيْئا مِنْهُ، فَقَالَ فِي نَفسه: أريدُ أَتزوّج فُلانة - يَعْنِي مَلِكَةً كَانَتْ فِي زَمَانه، وَأخذ فِي طلب ذَلِكَ، فتوجَّه إِلَى بلادها وأتى قصرهَا، وَرَأى الْحَاشِيَة المحيطة ببابها، وَكَانَ يَأْتِي الْبَاب فِي كُلّ يوْم فيجلسُ فِي فنائه، وَصَارَ بَينه وبَيْنَ الْحَاشِيَة بعضُ الأنْسِ لِكَثْرَة ترداده، وَكَانَ يُحَدِّثهُمْ ويحدثونه، وَرُبمَا سَأَلُوهُ عَنْ حَاجَة إِن كَانَتْ لَهُ فَلَا يُجِيبهُمْ بِشَيْء، إِلا أَنَّهُ بَعْدُ قَالَ: لي حاجةٌ إِلَى الملكة، فَقَالُوا لَهُ: أخْبِرنا بهَا فإنّ وَرَاءَنَا خدمًا وَمن بعدهمْ جوارٍ ووصائفَ بحضرتها، وَمن قِبَلِهِنَّ تَنْتَهِي الْأَخْبَار إِلَيْهَا، فَقَالَ: لَا أذكر حَاجَتي إِلا لَهَا، فأمسكوا عَنْهُ، وَكَانَت الملكةُ تشرِفُ من بعض مُسْتشرفاتها عَلَى فنَاء قصرهَا، وَترى من يَحْضُرُ ببابها، فأرسلتْ بعد سنةٍ من مصير ذَلِكَ الرَّجُل إِلَى حضرتها إِلَى مَنْ بِالْبَابِ: إِنِّي أرى منذُ سَنة رجلا غَرِيبا يَأْتِي فِي كُلّ يوْم، فانظروا مَا شَأْنه، فَإِن كَانَ مَظْلُوما نصرناهُ، وَإِن كَانَ مُسْتميحًا أعطيناه، وَإِن خطب عملا يصلُحُ لمثله ولّيناه، فأرسلوا إِلَيْهَا بِمَا خاطبهم بِهِ إِذْ سَأَلُوهُ عَنْ حَاله، فَأمرت بإدخاله إِلَيْهَا، فَلَمَّا وقف بَيْنَ يَديهَا سَأَلْتُهُ عَنْ حَاجته، فَقَالَ: لَا أذكرها وأحدٌ يسمعُ مَا أذكرهُ، فَأمرت جواريها بالتباعد، ثُمّ قالَتْ لَهُ: قُل، فَقَالَ: قصدتُ الملكة خاطبًا لَهَا، أتزوِّجُني نَفسهَا؟ فَقَالَت: إِنَّك لست بملكٍ وَلَا من وَلَد الْمُلُوك، وَمَتى تزوجتُك سقطَت منزلتي، وَزَالَ ملكي، وَلَكِن مالذي جَرَّأك عَلَى أَن خاطبتني بِهَذَا؟ فَأَخْبرهَا بِمَا خطر لَهُ حِين قَرَأَ الصَّحِيفَة، فَقَالَت لَهُ: فإنني أرى أَن تطلب الْحِكْمَة، وتتعلم الْعلم حَتَّى تصير رَأْسا فِيهِ، وتشتهر فِي النّاس منزلتك مِنْهُ، فَإِن منزلَة الْعلم أشرفُ من منزلَة الْمُلْك، فَإِذا صرتَ فَردا فِي الْحِكْمَة حَسُن مِنْك أَن تَخْطُبنِي وحَسُن بِي أَن أتزوَّجك، وَأَن أسمع أَهل مملكتي فَأَقُول لَهُم: قَدْ طالَتْ أيّامُ مُلكي وَلَيْسَ فِي أَهْل بَيْتِي من يقوم بِهِ بعدِي، وَقَدْ رَأَيْت أَن أَتزوّج إِلَى هَذَا وأرجع إِلَى رَأْيه فِي حَياتِي، لفضل علمه وَظُهُور حكمته، وَيقوم مقَامي بعد وفاتي، فَلَا ينكرُ ذَلِكَ أحدٌ من رعيتي.
وَفِي هَذِهِ الْمَدِينَة دارٌ يجْتَمع فِيهَا أَهْل الْحِكْمَة ورؤساء الفلاسفة، ويجتمع النّاس إِلَيْهِم للْقِرَاءَة عَلَيْهِم والتعلُّمِ مِنْهُم، وَأَنا أتقدَّم إِلَى الْمُتَقَدّم مِنْهُم بالتقديم لَك والإقبال عَلَيْك، فاجتهدْ فِي التَّعَلم، واقطعْ ليلك ونهارك باقتباسه، فَإِذا بلغتَ مِنْهُ رُتْبَة عالية فَحِينَئِذٍ تنالُ مَا أَنْت راغبٌ فِيهِ من جِهتي، فَفعل ذَلِكَ وَصَارَ إِلَى الدّار وَأَقْبل عَلَى التعلُّمِ، وَكَانَ ذَا ذكاءٍ وفطنة، وَكَانَ يأخذُ فِي الْمدَّة الْيَسِيرَة مَا يأخذُ غَيره فِي الْمدَّة الطَّوِيلَة، إِلَى أَن لحق بِمن
هُنَالك من متقدِّمي الْحُكَمَاء، ثُمّ تقدَّمهم إِلَى أَن صَار فَردا فيهم، واشتهر فِي النّاس فضلُه، وعَظَّموه لِسَعَةِ علمه وَظُهُور حكمته، وَصَارَ مَقْصُودا للاستفادة مِنْهُ، فخطر ببال الملكة ذكره، فسألتْ عَنْهُ فأُخْبِرت بِمَا انْتهى إِلَيْهِ أمره، فَأمرت باستدعائه فَحَضَرَ، فَقَالَت لَهُ: قَدْ بَلَغني مَا أصبتُه من الْحِكْمَة، فَهَل لَك فِيمَا كُنْت سألتنيه؟ فَقَالَ: لَا حاجَة لي فِي ذَلِكَ، فَقَالَت: وَلِم، وَقَدْ كنتَ حَرِيصًا عَلَيْه؟ فَقَالَ: رغبتُ فِي هَذَا وَأَنا أرى أَنَّهُ أفضلُ مَا يبلغهُ الإِنْسَان فِي دُنْيَاهُ، فَلَمَّا نِلتُ مَا نلتُه من الْحِكْمَة، وعلمتُ مَا علمتُ من أفانين الْعلم، تبينتُ مَا بَيْنَ الْعلم والْمُلْك من الْفَضْل، فرغبتُ بعلمي عَنْ مُلْكِ الدُّنْيَا، فَقَالَت لَهُ: لهَذَا أمرتُك بِمَا أمرتُك بِهِ، ورأيتُ أنَّكَ إِن لَمْ تبلغ الْغَايَة فِي الْعلم لَمْ تَعُد إليَّ، وَإِن عَلَتْ طبقتُك فِيهِ رغبتَ بِنَفْسِك عَنْ أُمُور الدُّنْيَا، وعلمتَ أَن مَا ظفرتَ بِهِ أفضلُ مِمَّا كنتَ التمسته.
وصَرَفَتْه وَلَمْ تَزَلْ مُكْرِمةً لَهُ.
فقد بَلغنِي أَن رَجُلا قَرَأَ فِي صحيفَة: أَنَّهُ من أَرَادَ شَيْئا وسعى فِي طلبه ناله أَوْ شَيْئا مِنْهُ، فَقَالَ فِي نَفسه: أريدُ أَتزوّج فُلانة - يَعْنِي مَلِكَةً كَانَتْ فِي زَمَانه، وَأخذ فِي طلب ذَلِكَ، فتوجَّه إِلَى بلادها وأتى قصرهَا، وَرَأى الْحَاشِيَة المحيطة ببابها، وَكَانَ يَأْتِي الْبَاب فِي كُلّ يوْم فيجلسُ فِي فنائه، وَصَارَ بَينه وبَيْنَ الْحَاشِيَة بعضُ الأنْسِ لِكَثْرَة ترداده، وَكَانَ يُحَدِّثهُمْ ويحدثونه، وَرُبمَا سَأَلُوهُ عَنْ حَاجَة إِن كَانَتْ لَهُ فَلَا يُجِيبهُمْ بِشَيْء، إِلا أَنَّهُ بَعْدُ قَالَ: لي حاجةٌ إِلَى الملكة، فَقَالُوا لَهُ: أخْبِرنا بهَا فإنّ وَرَاءَنَا خدمًا وَمن بعدهمْ جوارٍ ووصائفَ بحضرتها، وَمن قِبَلِهِنَّ تَنْتَهِي الْأَخْبَار إِلَيْهَا، فَقَالَ: لَا أذكر حَاجَتي إِلا لَهَا، فأمسكوا عَنْهُ، وَكَانَت الملكةُ تشرِفُ من بعض مُسْتشرفاتها عَلَى فنَاء قصرهَا، وَترى من يَحْضُرُ ببابها، فأرسلتْ بعد سنةٍ من مصير ذَلِكَ الرَّجُل إِلَى حضرتها إِلَى مَنْ بِالْبَابِ: إِنِّي أرى منذُ سَنة رجلا غَرِيبا يَأْتِي فِي كُلّ يوْم، فانظروا مَا شَأْنه، فَإِن كَانَ مَظْلُوما نصرناهُ، وَإِن كَانَ مُسْتميحًا أعطيناه، وَإِن خطب عملا يصلُحُ لمثله ولّيناه، فأرسلوا إِلَيْهَا بِمَا خاطبهم بِهِ إِذْ سَأَلُوهُ عَنْ حَاله، فَأمرت بإدخاله إِلَيْهَا، فَلَمَّا وقف بَيْنَ يَديهَا سَأَلْتُهُ عَنْ حَاجته، فَقَالَ: لَا أذكرها وأحدٌ يسمعُ مَا أذكرهُ، فَأمرت جواريها بالتباعد، ثُمّ قالَتْ لَهُ: قُل، فَقَالَ: قصدتُ الملكة خاطبًا لَهَا، أتزوِّجُني نَفسهَا؟ فَقَالَت: إِنَّك لست بملكٍ وَلَا من وَلَد الْمُلُوك، وَمَتى تزوجتُك سقطَت منزلتي، وَزَالَ ملكي، وَلَكِن مالذي جَرَّأك عَلَى أَن خاطبتني بِهَذَا؟ فَأَخْبرهَا بِمَا خطر لَهُ حِين قَرَأَ الصَّحِيفَة، فَقَالَت لَهُ: فإنني أرى أَن تطلب الْحِكْمَة، وتتعلم الْعلم حَتَّى تصير رَأْسا فِيهِ، وتشتهر فِي النّاس منزلتك مِنْهُ، فَإِن منزلَة الْعلم أشرفُ من منزلَة الْمُلْك، فَإِذا صرتَ فَردا فِي الْحِكْمَة حَسُن مِنْك أَن تَخْطُبنِي وحَسُن بِي أَن أتزوَّجك، وَأَن أسمع أَهل مملكتي فَأَقُول لَهُم: قَدْ طالَتْ أيّامُ مُلكي وَلَيْسَ فِي أَهْل بَيْتِي من يقوم بِهِ بعدِي، وَقَدْ رَأَيْت أَن أَتزوّج إِلَى هَذَا وأرجع إِلَى رَأْيه فِي حَياتِي، لفضل علمه وَظُهُور حكمته، وَيقوم مقَامي بعد وفاتي، فَلَا ينكرُ ذَلِكَ أحدٌ من رعيتي.
وَفِي هَذِهِ الْمَدِينَة دارٌ يجْتَمع فِيهَا أَهْل الْحِكْمَة ورؤساء الفلاسفة، ويجتمع النّاس إِلَيْهِم للْقِرَاءَة عَلَيْهِم والتعلُّمِ مِنْهُم، وَأَنا أتقدَّم إِلَى الْمُتَقَدّم مِنْهُم بالتقديم لَك والإقبال عَلَيْك، فاجتهدْ فِي التَّعَلم، واقطعْ ليلك ونهارك باقتباسه، فَإِذا بلغتَ مِنْهُ رُتْبَة عالية فَحِينَئِذٍ تنالُ مَا أَنْت راغبٌ فِيهِ من جِهتي، فَفعل ذَلِكَ وَصَارَ إِلَى الدّار وَأَقْبل عَلَى التعلُّمِ، وَكَانَ ذَا ذكاءٍ وفطنة، وَكَانَ يأخذُ فِي الْمدَّة الْيَسِيرَة مَا يأخذُ غَيره فِي الْمدَّة الطَّوِيلَة، إِلَى أَن لحق بِمن
هُنَالك من متقدِّمي الْحُكَمَاء، ثُمّ تقدَّمهم إِلَى أَن صَار فَردا فيهم، واشتهر فِي النّاس فضلُه، وعَظَّموه لِسَعَةِ علمه وَظُهُور حكمته، وَصَارَ مَقْصُودا للاستفادة مِنْهُ، فخطر ببال الملكة ذكره، فسألتْ عَنْهُ فأُخْبِرت بِمَا انْتهى إِلَيْهِ أمره، فَأمرت باستدعائه فَحَضَرَ، فَقَالَت لَهُ: قَدْ بَلَغني مَا أصبتُه من الْحِكْمَة، فَهَل لَك فِيمَا كُنْت سألتنيه؟ فَقَالَ: لَا حاجَة لي فِي ذَلِكَ، فَقَالَت: وَلِم، وَقَدْ كنتَ حَرِيصًا عَلَيْه؟ فَقَالَ: رغبتُ فِي هَذَا وَأَنا أرى أَنَّهُ أفضلُ مَا يبلغهُ الإِنْسَان فِي دُنْيَاهُ، فَلَمَّا نِلتُ مَا نلتُه من الْحِكْمَة، وعلمتُ مَا علمتُ من أفانين الْعلم، تبينتُ مَا بَيْنَ الْعلم والْمُلْك من الْفَضْل، فرغبتُ بعلمي عَنْ مُلْكِ الدُّنْيَا، فَقَالَت لَهُ: لهَذَا أمرتُك بِمَا أمرتُك بِهِ، ورأيتُ أنَّكَ إِن لَمْ تبلغ الْغَايَة فِي الْعلم لَمْ تَعُد إليَّ، وَإِن عَلَتْ طبقتُك فِيهِ رغبتَ بِنَفْسِك عَنْ أُمُور الدُّنْيَا، وعلمتَ أَن مَا ظفرتَ بِهِ أفضلُ مِمَّا كنتَ التمسته.
وصَرَفَتْه وَلَمْ تَزَلْ مُكْرِمةً لَهُ.