كما أن الجنة فى الآخرة للمتقين؛ قال تعالى فى سورة الطلاق: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ ...

كما أن الجنة فى الآخرة للمتقين؛ قال تعالى فى سورة الطلاق: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق: 5]، وأمثال ذلك فى التقوى العامة والخاصة وأجرها وعاقبتها كثير.
فمعنى التقوى العام: اتقاء كل ما يضر الإنسان فى نفسه وفى جنسه الإنسانى القريب والبعيد، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة والكمال الممكن. ولذلك قال العلماء: إنها عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصى وفعل ما يستطاع من الطاعات، وزدنا على ذلك: اتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن الله تعالى فى الكون، كالنصر على الأعداء وجعل كلمة الله هى العليا فى الأرض، كما هى فى الواقع ونفس الأمر، وكلمة الذين كفروا السفل كذلك، وكمال ذلك يتوقف على العلم الواسع بالكتاب والسّنّة، وكمال هذا يتوقف على معرفة سنن الله تعالى فى الإنسان مجتمعا ومنفردا كما أرشد إليه فى آيات من كتابه، ومن ثم كانت ثمرة التقوى العامة الكاملة هنا حصول ملكة الفرقان التى يفرق صاحبها بنوره بين الأشياء التى تعرض له من علم وحكم وعمل، فيفصل فيها بين ما يجب قبوله وما يجب رفضه، وبين ما ينبغى فعله وما يجب تركه. وتنكير الفرقان للتنويع التابع لأنواع التقوى، كالفتن فى السياسة والرئاسة والحلال والحرام والعدل والظلم، فكل متق لله فى شىء يؤتيه فرقانا فيه.
وبذلك كان الخلفاء والحكام من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن تبعهم من خلفاء العرب أعدل حكام الأمم فى الأرض حتى فى عهد الفتح، قال بعض حكماء الإفرنج «1»: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، ولكنهم لم يتقوا فتن السياسة والرئاسة لقلة خبرتهم. فعوقبوا عليها بتفرقهم وضعفهم وزوال ملكهم، وكان من بعدهم من أعاجم المسلمين دونهم لجهلهم بكل نوع من أنواع التقوى الواجبة، وحرمانهم من فرقانها، فهم يزعمون أنهم يجددون مجدهم، مع جهل هذا الفرقان المبين، وعدم الاعتصام بالتقوى المزكية للنفس، المؤهلة لها للإصلاح فى الأرض، بل مع انغماسهم فى السكر والفواحش، لظنهم أن الإفرنج قد ترقوا فى دنياهم بفسّاقهم
وفجّارهم، وإنما ترقوا بحكمائهم وأبرارهم، الذين وقفوا حياتهم على العلم والعمل النافع.
وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ هذا عطف على يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً، أى:
ويمحو بسبب هذا الفرقان وتأثيره ما كان من تدنيس سيئاتكم لأنفسكم فتزول منها داعية
__________
(1) هو الدكتور «غوستاف لوبون»؛ صاحب كتاب حضارة العرب والإسلام وغيره من المصنفات.

.
.
.
.
.
.
جاءت قريش الى النبي صلى الله عليه وسلم .. قالوا اجعل لنا الجبل ذهبا نتبعك .. ثم انتهى به الراي انهم اذا لم يوفوا بوعدهم هلكوا .. فقال اتركهم والايات في السماوات والأرض .. يذنبوا مرة ويتوبوا مرة .. فرصة النجاح كبيرة
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164]، ويلى ذلك فى الكثرة آيات كتابه التشريعية، ووصاياه كقوله فى تفصيل الوصايا الجامعة من أواخر [سورة الأنعام: 151]: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وكرر قوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ أكثر من عشرات كأمره لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يحتج على قومه بكون القرآن من عند الله لا من عنده بقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: 16]، وجعل إهمال استعمال العقل سبب عذاب الآخرة بقوله فى أهل النار فى سورة [سورة الملك الآية: 10]: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ، وفى معناها قوله تعالى من [سورة الأعراف: 179]: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ، وقوله فى [سورة الحج: 46]: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها.
كذلك آيات النظر العقليّ والتفكر كثيرة فى الكتاب العزيز، فمن تأملها علم أن أهل هذا الدين هم أهل النظر والتفكر والعقل والتدبر، وأنّ الغافلين الذين يعيشون كالأنعام لا خطّ لهم منه إلا الظواهر التقليدية التى لا تزكى الأنفس ولا يثقف العقول، ولا تصعد بها فى معارج الكمال، بعرفان ذى الجلال والجمال، ومنها قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم: 8]، وقوله فى صفات العقلاء أولى الألباب: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 191]، وقوله بعد نفى علم الغيب والتصرف فى خزائن الأرض عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وحصر وظيفته فى اتباع الوحى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام: 50].
وقد صرّح بعض حكماء الغرب بما لا يختلف فيه عاقلان فى الأرض من أنّ التفكّر هو مبدأ ارتقاء البشر، وبقدر جودته يكون تفاضلهم فيه.
كانت التقاليد الدينية قد حجرت حريّة التفكر واستقلال العقل على البشر. حتى جاء الإسلام فأبطل بكتابه هذا الحجر، وأعتقهم من هذا الرقّ، وقد تعلم هذه الحرية أمم الغرب من المسلمين، ثم نكس هؤلاء المسلمون على رءوسهم فحرموها على أنفسهم إلا قليلا منهم حتى عاد بعضهم يقلدون فيها من أخذوها عن أجدادهم، وقد اعترف علماء الغرب لعلماء سلفنا بسبقهم وإمامتهم لهم فيها وفى ثمراتها، ونقل شيخنا الأستاذ الإمام طائفة من أقوالهم فى كتاب (الإسلام والنصرانية).